عبرت الحكومة الجزائرية الجديدة أول امتحان سياسي يواجهها، بعد عرض ومناقشة خطتها أمام البرلمان على مدار ثلاثة أيام، تعرضت خلالها لانتقادات حادة بشأن مضمون الخطة وضعف المؤشرات الرقمية. وإذا كانت الحكومة الجديدة قد وضعت نفسها في مواجهة مع المال السياسي كتحدٍ إضافي، فإن أبرز مهامها يتعلق بتوفير ظروف التهدئة الاجتماعية والانسجام السياسي لتنظيم الاستحقاق الرئاسي ربيع 2019، الذي تدخل بعده الجزائر مرحلة ما بعد البوتفليقية.
وتواجه حكومة عبد المجيد تبون تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة. ويضغط عليها الظرف الزمني القصير المتاح لها، الذي ينتهي في أبريل/نيسان 2019، مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في هذه الفترة. وإذا كانت الحكومة قد مرت من الامتحان البرلماني بأقل خسائر ممكنة، كون أحزاب الموالاة تشكل الأغلبية في البرلمان، فإن كلفة تنفيذ خطتها، حتى عام 2019، ستكون كبيرة، بالنظر إلى تزايد المشكلات الاقتصادية بفعل تراجع عائدات البلاد بسبب انهيار أسعار النفط، إذ خسر البلد منذ يناير/كانون الثاني الماضي 50 مليار دولار أميركي، وتضخم الأزمة الاجتماعية نتيجة تعطل مشاريع البنية التحتية والتوظيف وتأجيل المشاريع بسبب نقص السيولة، إذ لم يبق في الخزينة العامة سوى ما يكفي لتغطية احتياجات البلاد لمدة سنة. يضاف إلى ذلك الإضرابات والحراك الاحتجاجي، في عدة قطاعات خدمية، والذي يتزامن عادة مع بداية سبتمبر/أيلول المقبل في قطاعات الصحة والتربية، ناهيك عن تعقيدات الوضع السياسي في البلاد إزاء غموض الموقف في أعلى هرم السلطة واستمرار غياب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والآفاق السياسية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية المقررة في 2019، وبدرجة أثقل الانتخابات المحلية المقررة نهاية العام الحالي.
الخطة الحكومية التي عرضها عبد المجيد تبون، وناقشها النواب، لم تتضمن محددات واضحة أو آجالاً زمنية بشأن حل المشاكل المزمنة في الجزائر، كالشغل، إذ ما زالت البطالة في أفق 13 في المائة، وأزمة السكن، التي تعهد رئيس الحكومة بالقضاء عليها نهاية 2019، وهو تعهد يذكر بتعهدات سابقة كان تبون قطعها عندما كان رئيساً للحكومة بشأن إنهاء أزمة السكن نهاية 2017، وإتمام إنجاز مسجد الجزائر الأعظم نهاية 2016. هذا الأمر، دفع بالمحللين إلى التعليق على خطة الحكومة بالقول إنها تشبه البحث الإنشائي الذي ينجزه التلامذة في مقاهي الإنترنت، ولا تعكس تطلعات المواطن الجزائري المخنوق أصلاً بسياسات التقشف، كما أنها غير مشفوعة بالأرقام وغير مقيدة بالمدد الزمنية، ولا ترقى إلى حجم الأزمة العميقة والهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الجزائري، الذي تشكل عائدات النفط 98 في المائة منه. وللهروب من هذه التحديات، اختار رئيس الحكومة الجزائرية لنفسه تحدياً آخر، يتعلق هذه المرة بإعلانه الحرب وقطع الطريق على ما وصفه بتغول رأس المال ورجال الأعمال في مراكز النفوذ والسلطة والتمدد باتجاه الهيمنة على المشهد السياسي. وقال تبون، أمام البرلمان، إن "الحكومة ستعمل على التفريق بين المال والسلطة في إطار قواعد جديدة لتأطير الحالات المتعلقة باستغلال النفوذ لتحقيق مآرب شخصية، واعتماد قواعد جديدة لتأطير الحالات المتعلقة باستغلال النفوذ لتحقيق مآرب شخصية والدمج بين المجالات السياسية والاقتصادية". وأضاف إن "الجزائر بلد الحريات وسيظل كذلك، ومن حق أي مواطن أن يخوض مجال الأعمال أو السياسة، أو يمارس الاثنين من دون الجمع بينهما في وقت واحد، لكننا سنفرق بين المال والسلطة وليسبح كل في فلكه". وتابع "لا نسعى إلى الاصطدام بأرباب العمل ورجال الأعمال والمال، لكن المال لا ينبغي أن يتوغل في دواليب الدولة".
وكان لافتاً في الانتخابات البرلمانية، التي جرت في الرابع من مايو/أيار الماضي، سيطرة عدد من رجال المال والأعمال على قوائم المرشحين في عدة أحزاب، واستغلال نفوذهم المالي للفوز بمقاعد برلمانية تمكنهم من التمتع بالحصانة والاقتراب من المراكز الحكومية، ما أثار مخاوف جدية بشأن هيمنة "الكارتل" المالي على المشهد السياسي وعلى البرلمان وصياغة قوانين تخدم مصالح رجال الأعمال، على غرار التدابير المتضمنة في قانون الموازنة الحالي، الذي يتيح لرجال الأعمال، في هيئة مستثمرين، الحصول على العقارات الصناعية والزراعية بالدينار الرمزي. لكن تعهدات تبون لا تلقى ثقة الأوساط السياسية وأحزاب المعارضة التي ترفض التعاطي مع خطاب سياسي، يبدو موجهاً للاستهلاك الإعلامي. وتبدو هذه الأوساط أكثر إدراكاً لمعطيات الواقع السياسي وتقاطعات مراكز صناعة القرار مع "الكارتل" المالي المتمدد. وتدرك أن الحكومة، ورئيسها عبد المجيد تبون، لا تمثل مركزاً للقرار أو جهة لحسم الخيارات الكبرى، وأن أكثر مهامها تتعلق بالتحضير والإشراف على الدخول المدرسي والاجتماعي المقبل وتنظيم الانتخابات البلدية نهاية السنة الحالية. وفي هذا السياق، يقول القيادي في حركة مجتمع السلم، عبد الله بن عجايمية، "جميل أن يقول رئيس الحكومة إن المال يجب أن يكون بعيداً عن الدولة، لكنه يعلم جيداً أنه لن يستطيع تغيير هذا الواقع، فلوبيات المال أصبحت متغولة أكثر، بل وتعين وزراء ومسؤولين محميين بموجب القانون". واعتبر أنه من الغرابة أن يقول رئيس الحكومة هكذا تصريح أمام برلمان يضم عدداً كبيراً من رجال الأعمال، الذين نجحوا في الفوز بمقاعد البرلمان، "طبعاً دون أن ننسى أيضاً أن تبون ألقى كلمته أمام برلمان به كثير من النواب المليارديرات".
ولا يعلق قطاع واسع من الجزائريين، كما أحزاب المعارضة السياسية، آمالاً كبيرة على الحكومة الجديدة بشأن حلحلة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، وتعتبرها وفق وصف النائب في كتلة النهضة والتنمية والبناء، لخضر بن خلاف، حكومة تصريف أعمال وتسيير الشؤون العامة حتى ربيع 2019، بما في ذلك تعهداتها بتكريس حرية الصحافة والتعبير وتعزيز المكاسب الديمقراطية، إذ لا يتوقع أن تسهم الحكومة الجديدة، المحكومة بمحددات المحيط الرئاسي الذي يمسك بزمام الأمور، بتحسين مناخ المنافسة السياسية والممارسة الديمقراطية في البلاد، خصوصاً وأن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسية حاسمة، تمر معها إلى مرحلة ما بعد بوتفليقة. وفي الأثناء، يبرز الدور الرئيس للحكومة الجديدة المخول لها توفير ظروف التهدئة الاجتماعية والحد الأدنى من الاستقرار السياسي الذي يتيح تنظيم الرئاسيات بأقل كلفة سياسية، خصوصاً وأن هذا الاستحقاق يمثل أساس تركيز الدوائر الحاكمة في الجزائر حالياً.
ويعتقد المحلل السياسي، محمد سيدمو، أن "اختيار عبد المجيد تبون في حد ذاته من قبل المحيط الرئاسي ليكون رئيس الحكومة قد يعبر عن إرادة في إبعاد كل المرشحين المحتملين لرئاسيات 2019 من الواجهة، خصوصاً عبد المالك سلال وأحمد أويحيى، لأن منصب رئيس الحكومة، بما يحمله من احتكاك مع المواطنين وتنقل للولايات، يصنع لصاحبه شعبية وحضوراً، ويجعل منه قابلاً للتسويق كمرشح رئاسي قوي، بخلاف تبون، المعروف عنه أنه رجل من دون طموح سياسي كبير، لذلك فإن وجوده في هذا المنصب لا يشكل خطراً لمن يهندس لصناعة الرئيس المقبل". وأضاف إن "نجاح تبون في بعض القطاعات الوزارية، وتخفيفه من حدة أزمة السكن، يريح السلطة من أي تقلبات اجتماعية محتملة". ويصب تعليق رئيس تحرير النسخة الأسبوعية من صحيفة "الوطن"، عدلان مدي، في السياق نفسه، إذ إنه يعتقد أن "المهمة الرئيسة، وغير المعلنة، بالنسبة إلى حكومة تبون هي توفير الأجواء المناسبة للانتخابات الرئاسية المقبلة، لأن تركيبة الحكومة الحالية، من وزراء من دون خبرة سياسية وتقنية، لا توحي بأنها حكومة حل أزمات أو طرح بدائل اقتصادية جدية". وفي غضون ستة أشهر، أي مطلع السنة المقبلة، سينتقل النقاش السياسي في الجزائر إلى موضوع الانتخابات الرئاسية، وستحول الحكومة تركيزها باتجاه ضبط التفاصيل المتعلقة بهذا الاستحقاق السياسي الحاسم، فيما تودع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية درج الانتظار إلى ما بعد ربيع 2019.