احذر.. أمامك طلاب
لنتذكر، في الأسبوع الجاري، واسمه في مصر "عاش نضال الطلبة"، أنه منذ انقلاب الثالث من يوليو/ تموز الماضي هناك، كان الطلبة هم الفاعل صاحب الحضور المستمر في المشهد الاحتجاجي المصري. وفي البال أن مدرعة الاستبداد الراهن في مصر حطمت النخب، وقمعت الأحزاب والنقابات، وكل كيان قد يواجهها، لكنها لا تزال عاجزةً أمام مجيء موسى الذي تربّى في بيت فرعون.
حراك الطلاب مؤثر، تبعاً لعدة أسباب: أولها أنهم أصحاب سقف مرتفع، ليس لديهم ما يخسرونه، فهم غير خاضعين للحسابات المعقدة التي تكبل غيرهم من القوى السياسية، وغير مرتهنين لتجارب تاريخية سابقة. أيضاً، الطلاب فاعل مهم، تتوافق أطراف المجتمع على أهميته، وأهمية دوره وصدقه. الطلاب يكسبون تعاطف الجميع، لأنهم معبرون عن رغبات طبيعيةٍ، تتمثل في رغبة الشباب في تحقيق نظرتهم الجديدة. يضاف إلى ذلك أن الحركة الطلابية حركة غير عنفية، ولا دموية، فهي تتبنى الخط الثقافي، وتولد من خلاله.
العامل الأهم في قوة الطلاب يكمن في وقت مجيئهم. الحركة الطلابية الاحتجاجية لا تتم صناعتها، بمؤسسيةٍ ومنهجيةٍ وتخطيطٍ دقيق، بل يبرز دورها، فجأة، في لحظةٍ تاريخيةٍ فارقةٍ من عمر المجتمعات، وذلك حين تُقفل الأبواب، ويتجمد التاريخ. حين تتحطم حكاية النظام القائم، وتتحطم، أيضاً، حكايات القوى المعارضة له. هنا، يُحبس المجتمع في العدم والخواء والانتظار. فتتفتح الأبواب، بعد ذلك، للحظة الجرأة ولحظة الطلاب.
لذا، الحراك الطلابي ليس سياسياً فقط، أو يُمثل ردة فعل على حوداث معينة، بل حراك ينتفض على مجتمع بأكمله. المؤلف الأميركي كورلانسكي كتب في كتابه عن انتفاضة طلاب فرنسا "1968 العام الذي هزّ العالم": "ثورة طلاب مايو 68، كانت، في الأصل، ثورةً ضد المجتمع، وتقاليده العتيقة الموروثة عن القرن التاسع عشر. كانت ثورةً ضد الهيبة الأبوية داخل العائلة، وضد هيبة أرباب العمل في المصانع، أو الأساتذة في المدارس ..إلخ".
كذلك حركة 68 الطلابية في مصر فسرها فؤاد زكريا بأنها كانت "تلخيصاً للسخط الجارف الذي اجتاح البلاد بعد هزيمة 1967. على أن الروح العامة التي كانت وراء هذا التحرك الطلابي كانت تعبر عما هو أكثر من السخط على الهزيمة. إذ كانت في الواقع تعبيراً عن عدم الرضا عن أسلوب كامل في الحكم، تعد الهزيمة العسكرية مظهراً واحداً من مظاهره السلبية".
يسخر بعضهم من قدرة الحركة الطلابية على التغيير، وُصفوا تاريخياً بأَنهم "زعران" أو "شوية عيال"، ونشاهد، اليوم، تعليقات تسخر من حراكهم في مصر. وهذا حال من لا يتأمل التاريخ!. فمنذ منتصف القرن العشرين، والحركات الطلابية تهز الأرض، وتحفر الدروب. ففي هنغاريا عام 1956، انطلقت تظاهرة شعبية عارمة، بدأها الطلبة في الكليات. وعلى الرغم من مقتل 2500 شخص في تلك الانتفاضة، إلا أنها مثلت أول تهديد للاتحاد السوفياتي، بعد الحرب العالمية الثانية، وأُسقط تمثال ستالين في بودابست.
وفي فرنسا 68، انفجرت أشهر تظاهرة طلابية، أثرت في مدن العالم، من طوكيو إلى كاليفورنيا. وكادت أن تطيح شارل ديغول الذي غادر البلاد مؤقتاً، وغيرت فرنسا بشكل عميق. وفي أميركا، انطلقت تظاهرات من جامعة كونيتكيت عام 70، وانتقل الحراك إلى جامعات أميركا، وساد إضراب عام، اشترك فيه ملايين الطلاب، وأغلقت على أثره 450 مؤسسة تعليمية. ضرب هذا الاحتجاج في جسد أميركا، وأعقبه في السنوات الثلاث اللاحقة، احتجاج متنام أجبر أميركا على الانسحاب من فيتنام.
وفي جنوب إفريقيا 76، انطلق طلاب الحي الأسود في تظاهرةٍ، احتجاجا على فرض "لغة الأسياد" البيض عليهم في التعليم. ومثلت أول تهديد لنظام الفصل العنصري، وبدأت بعدها العقوبات الدولية عليه، وقادت، في النهاية، إلى إسقاطه.
أدت الانتفاضات الطلابية إلى إسقاط أنظمةٍ عسكريةٍ، لم تكن لتسقط لولا جرأة الطلاب. حدث هذا في انتفاضتهم في اليونان 73، وفي تايلند 73، وفي إندونيسيا 98، حين أطيح نظام الجنرال سوهارتو. وفي العالم العربي، أطيحت، لأول مرة، ديكتاتورية عسكرية عبر الشعب، بعد انتفاضة بدأها الطلاب السودانيون في جامعة الخرطوم عام 1964. ودفعت الانتفاضة الطلابية في مصر 68 جمال عبد الناصر (لم يكن يساير قوى الداخل والخارج) إلى أن يُقدم تراجعات، ويشكل وزارةً مدنيةً، لأول مرة، في نظامه، كما استخدم بعدها كلمة "حريات" أول مرة في خطابه.
للنفس الطلابي في مصر صولة عريقة، وله امتداد وطني بدأ منذ أكثر من قرن. شارك الحراك الطلابي في الدفع إلى استقلال البلاد. وبعد أما كان ينشط سراً في عهد عبد الناصر نتيجة القمع، عاشت الحركة الطلابية أزهى عصورها، وأشدها حيويةً في عهد أنور السادات. كما ذكر عبد المنعم أبو الفتوح، في شهادته التي كتبها له الراحل حسام تمام. كان الطلاب اليساريون طليعة الحركة الطلابية، وفي منتصف السبعينيات، بدأ الطلاب الإسلاميون بمزاحمتهم في قيادة اتحادات الطلبة. إن الرموز السياسية اليوم هم نتاج ذلك العقد الذهبي للطلاب، كالذين دعموا حركة "كفاية"، أو الرموز التي ترشحت للرئاسة، مثل أبو الفتوح وحمدين صباحي ومحمد مرسي.
قيّد السادات هذا الحراك الطلابي في آخر عهده. وأَثر القمع الأمني واستراتيجية الحكومة تجاه النشاط الطلابي، في عهد حسني مبارك، كثيراً على هذا الحراك، وأضعفت وجوده وهمشته، من خلال تعديل اللائحة الطلابية التي تم حصرها في أَنشطةٍ فنية أو ندوات. وأصبح النشاط السياسي فيها محظوراً. لكن، مع ذلك شارك الطلبة في احتجاجات ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ودعم حركة 6 أبريل في العام 2008، وصولا إلى دعم ثورة 25 يناير.
لا يمكن اعتبار الاحتجاجات الطلابية في مصر، وقاربت 1700 احتجاج في الفصل الدراسي الأول 2013-2014، مجرد احتجاجات من "طلبة الاخوان"، بل دلالةً على إحباط اجتماعي أكبر وأوسع. احباط مجتمع انكسرت "ديموقراطيته" التي استبشر بها. وأعمق من ذلك، إحباط ناتج من "علل" تقصّى بعضها جمال حمدان قبل أكثر من ثلاثة عقود، ولا تزال تتراكم من حينها.