18 نوفمبر 2024
احتفالية وعد بلفور.. الانحطاط البريطاني الحديث
يعبر وعد بلفور الذي منحته بريطانيا للحركة الصهيونية، ويقضي بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، عن احتقار الإدارة الاستعمارية للشعوب المستعمَرة، والاستخفاف بها، والتعاطي معها بوصفها أملاكا للإمبراطورية تفعل بها ما تشاء. وإذا كان هذا الوعد قد مضى عليه قرن، بوصفه تجسيدا لواحدةٍ من جرائم الإدارة الاستعمارية البريطانية التي ارتكبت جرائم كثيرة في طول العالم وعرضه، في المستعمرات التي سيطرت عليها. وكان يمكن التقدير أن هذا السلوك الاستعماري بات جزءا من التاريخ، بعد طي صفحة الاستعمار، وأن العالم الحديث يأنف عن تأييد أفعالٍ مع هذا القبيل، أن يمنح بلدٌ مستمِعر بلدا يستعمره لغير شعب هذا البلد الذي يقع تحت احتلاله. ولكن يبدو أن هذا السلوك والعقلية الاستعمارية ما زالا معشّشين في ثنايا الحكومة البريطانية القائمة، والتي يبدو أنها تحنّ إلى تلك الفترة، لا شيء غير هذا يفسر الفخر البريطاني اليوم بجريمةٍ ارتكبتها الإدارة البريطانية الاستعمارية في فلسطين، سوى هذا الحنين. فإنّ ما تقوم به بريطانيا اليوم من احتفال بمرور مائة عام على الوعد/ الجريمة، بوصفه حدثا مشرفا لبريطانيا، يرشّ الملح على الجرح الفلسطيني الذي لا يزال ينزف. فبدلا من تقدّم الحكومة البريطانية اعتذارا عن تاريخها الاستعماري، وعن الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، بتقديم الذريعة التاريخية لسلبه وطنه ومنحه للغير، فهي تحتفل اليوم بدورها الأساسي في تحويل الجريمة إلى واقع قائم على الأرض الفلسطينية، والمساهمة الفعالة في إخفاء فلسطين عن الخريطة الجغرافية للمنطقة، لتولد على أنقاضها دولة إسرائيل العنصرية.
هذا السلوك الاستعماري البريطاني الذي تسببت بمعاناة تاريخية ما زالت آثارها ماثلة أمام
العيون، على اعتبار الفلسطينيين، واللاجئين منهم خصوصا، التجسيد الحي للجريمة الصهيونية التي أسّس لها وعد بلفور، بوصفه تجسيدا للسلوك المنحط للإدارة الاستعمارية. كما أن الاحتفال بالمناسبة يؤكد أن المنطق الاستعماري نفسه ما زال يعشش في ثنايا الحكومة البريطانية التي تشعر بالفخر بهذا المنجز (!)، بدلا من الشعور بالعار للجريمة التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني، وما تزال آثارها قائمة. ولا شك أن تصريح رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، "إننا نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر"، فهي تحتفل بالجريمة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين على حساب آلام ملايين الفلسطينيين، والتي تسببت بها السياسة الاستعمارية البريطانية في فلسطين، بدءا من وعد بلفور، وصولا إلى الاحتفال بمئويته. أما إشارة ماي إلى أن "علينا أيضا فهم الحساسية الموجودة لدى بعض الناس بسبب وعد بلفور"، فهي إهانة مضاعفة لمعاناة الفلسطينيين على مدى قرن، بداية من التجربة الاستعمارية البريطانية لفلسطين، وصولا إلى إسهامها الكبير في تأسيس دولة إسرائيل.
تتحدث ماي وكأن ما جرى في فلسطين مجرد حدث تاريخي هامشي، تسبب بـ"حساسية الربيع" لبعضهم، و"بعضهم" تقصد بهم رئيسة الحكومة البريطانية الشعب الفلسطيني، وليس جريمةً كبرى، اقتلع في سياقها شعبا كاملا من بلاده، وتم طرده وتشريده في المنافي، ومنع عودة إلى بيوته، حتى بموجب قرارات للأمم المتحدة، بوصفها عنوان الحقوق في العالم المعاصر. وكأن هذا الحدث لم يؤسّس على أنقاض وطن الفلسطينيين دولة مستوطنين عنصرية اقتلاعية، ما زالت جريمتها مستمرة بحق الفلسطينيين. الكلام بخفة عن "حساسية" يسببها وعد بلفور، هو استمرار للاحتقار الذي مارسته الإدارة الاستعمارية طويلا، لكنه احتقارٌ مضاعف، لأنه بات يأتي من دولة هزيلة وتابعة في عالم اليوم، ويأتي في عالمٍ يُفترض أنه بات محكوما بحقوق الإنسان والعدالة، وإدانة الجرائم التي ارتكبها الاستعمار بحق الشعوب التي استعمرها. كان رفض الاعتراف، والاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها الإدارات الاستعمارية بحق الشعوب، موضع تساؤل، عمّا إذا كانت هذه البلدان قد غادرت العقلية الاستعمارية. أما اليوم، فالإدارة البريطانية لا ترفض الاعتراف والاعتذار فحسب، بل هي تحتفل بجرائمها بحق الشعوب الأخرى أيضا، وهي جرائم يمثلها اليوم الاحتفال بمئوية وعد بلفور، بوصفه مبعث فخر لبريطانيا.
لم تكن السياسة الاستعمارية البريطانية بإعطائها وعد بلفور للحركة الصهيونية، تهدف إلى تخفيف معاناة اليهود في أوروبا، بقدر ما كانت تهدف إلى توظيف هذه المعاناة في الحفاظ على مصالح الإمبراطورية البريطانية، والتي كانت تدور في المنطقة بشأن قناة السويس، بوصفها
الطريق الرئيسي إلى المستعمرات البريطانية في آسيا، تحديدا الهند، التي كانت تعتبر جوهرة التاج البريطاني. وبذلك كان مطلوبا من المشروع الصهيوني في فلسطين، من منظور السياسة الاستعمارية، حماية قناة السويس، بوصفها شريان الحياة الرئيسي للإمبراطورية. بمعنى آخر، الإدارة الاستعمارية التي لم تكن مشغولة بحقوق الشعوب التي تستعمرها، لم تكن مشغولةً في معاناة اليهود في أوروبا أيضا، وكانت السياسة البريطانية كلها تقوم على أساس التخلص من المشكلة اليهودية في أوروبا، وتصديرها إلى الخارج، وتوظيفها في خدمة المصالح الاستعمارية وحمايتها. ومن مفارقاتٍ تقوم عليها احتفالية بريطانيا بمئوية وعد بلفور أن الرواية الصهيونية لتأسيس دولة إسرائيل تقوم على أساس أن الحركة الصهيونية "حركة تحرّر" أنجزت استقلالها في خوضها الصراع المرير مع الاستعمار البريطاني. أي أن الرواية الصهيونية تعتبر أن بريطانيا كانت عائقا أمام تحقيق مشروع "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين.
يشعر كل فلسطيني اليوم بالإهانة والغضب من تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية، ومن الاحتفالات المئوية بوعد بلفور الذي سلبهم وطنهم، وأدخلهم في معاناة منذ قرن لم تنتهِ. وهذه الإهانة هي استمرار للجريمة الكبرى التي ارتكبتها الإدارة الاستعمارية بمنحها "ما لا تملك، لمن لا يستحق". وتحتقر هذه الاحتفالات آلامي شخصيا بوصفي فلسطينيا، وآلام كل الفلسطينيين الذين كانوا ضحية تأسيس إسرائيل على أنقاض وطنهم. وبريطانيا التي لا ترى اليوم جريمتها، والآلام والمعاناة التي تسببت بها للملايين، هي عنوان لانحطاط العالم الحديث.
هذا السلوك الاستعماري البريطاني الذي تسببت بمعاناة تاريخية ما زالت آثارها ماثلة أمام
تتحدث ماي وكأن ما جرى في فلسطين مجرد حدث تاريخي هامشي، تسبب بـ"حساسية الربيع" لبعضهم، و"بعضهم" تقصد بهم رئيسة الحكومة البريطانية الشعب الفلسطيني، وليس جريمةً كبرى، اقتلع في سياقها شعبا كاملا من بلاده، وتم طرده وتشريده في المنافي، ومنع عودة إلى بيوته، حتى بموجب قرارات للأمم المتحدة، بوصفها عنوان الحقوق في العالم المعاصر. وكأن هذا الحدث لم يؤسّس على أنقاض وطن الفلسطينيين دولة مستوطنين عنصرية اقتلاعية، ما زالت جريمتها مستمرة بحق الفلسطينيين. الكلام بخفة عن "حساسية" يسببها وعد بلفور، هو استمرار للاحتقار الذي مارسته الإدارة الاستعمارية طويلا، لكنه احتقارٌ مضاعف، لأنه بات يأتي من دولة هزيلة وتابعة في عالم اليوم، ويأتي في عالمٍ يُفترض أنه بات محكوما بحقوق الإنسان والعدالة، وإدانة الجرائم التي ارتكبها الاستعمار بحق الشعوب التي استعمرها. كان رفض الاعتراف، والاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها الإدارات الاستعمارية بحق الشعوب، موضع تساؤل، عمّا إذا كانت هذه البلدان قد غادرت العقلية الاستعمارية. أما اليوم، فالإدارة البريطانية لا ترفض الاعتراف والاعتذار فحسب، بل هي تحتفل بجرائمها بحق الشعوب الأخرى أيضا، وهي جرائم يمثلها اليوم الاحتفال بمئوية وعد بلفور، بوصفه مبعث فخر لبريطانيا.
لم تكن السياسة الاستعمارية البريطانية بإعطائها وعد بلفور للحركة الصهيونية، تهدف إلى تخفيف معاناة اليهود في أوروبا، بقدر ما كانت تهدف إلى توظيف هذه المعاناة في الحفاظ على مصالح الإمبراطورية البريطانية، والتي كانت تدور في المنطقة بشأن قناة السويس، بوصفها
يشعر كل فلسطيني اليوم بالإهانة والغضب من تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية، ومن الاحتفالات المئوية بوعد بلفور الذي سلبهم وطنهم، وأدخلهم في معاناة منذ قرن لم تنتهِ. وهذه الإهانة هي استمرار للجريمة الكبرى التي ارتكبتها الإدارة الاستعمارية بمنحها "ما لا تملك، لمن لا يستحق". وتحتقر هذه الاحتفالات آلامي شخصيا بوصفي فلسطينيا، وآلام كل الفلسطينيين الذين كانوا ضحية تأسيس إسرائيل على أنقاض وطنهم. وبريطانيا التي لا ترى اليوم جريمتها، والآلام والمعاناة التي تسببت بها للملايين، هي عنوان لانحطاط العالم الحديث.