احترنا يا أقرع من أين نمشطك

13 ديسمبر 2014

مشهد عام لشارع الاستقلال في إسطنبول (Getty)

+ الخط -

كان السياسيون القوميون واليساريون العرب يهاجمون مؤسسي الجمهورية التركية، بذريعة قطعهم مع ماضيهم وتوجههم نحو الغرب، حتى أنهم كانوا يعتبرون حركة التأصيل التي بدأت في أواسط القرن التاسع عشر، وهدفت إلى تنقية اللغة التركية من المفردات الفارسية والعربية، واشتقاق كلمات من مصادر تركية، بدلاً عنها، مجرد عملية استبعاد العربية وإدخال الكلمات ذات الأصول الغربية، ويربطون هذه العملية بإعلان الجمهورية شاطبين ثمانين سنة فقط من تاريخ المناداة بها!

وطالما تساءل المثقف العربي عن القطيعة الثقافية مع تاريخ ووثائق هائلة، لم يعد هذا الجيل يعرف عنها شيئاً، ويقتصر العمل فيها على المختصين فقط، علماً بأن تلك اللغة والحروف بقيت مستخدمة، وتمثل أرشيف الدولة الرسمي الذي هو تاريخ بداية الجمهورية التركية حتى عام 1928، أي أنه لم يمض عليه قرن بعد. وهو سؤال مشروع، وله ما يبرره، لكن الجواب: "طالما كان لكل نجاح أو نتيجة ثمن"، فالصعوبة التي كانت ناجمة عن العلاقة بين الحرف العربي واللغة العثمانية الملفوظة تصعّب عملية التعليم إلى درجة كبيرة، ومع بدء الدعوات لاعتماد الحرف اللاتيني كانت، هناك، أيضاً، دعوات للعودة إلى الحرف التركي القديم، المدون على المسلات في آسيا الوسطى، ودعوات أخرى لتبسيط قواعد الإملاء والكتابة بالأحرف العربية، وكانت هذه الدعوات تقدم نماذج تطبيقية، من أجل إثبات صحة ادعاءاتها، ومن ضمن الذين ساهموا بتقديم مشروع تبسيط الإملاء بالحرف العربي، وأصدره في كتاب طُبع في مطابع الجيش التركي، أحد صقور حزب الاتحاد والترقي، طلعت باشا، وزير الداخلية والصدر الأعظم العثماني في مطلع القرن العشرين.

لا بد من التنويه إلى أن الأتراك أكثر شعب في العالم استخدم أحرفاً مختلفة في تدوين لغته، فقد كتب بالأحرف الصينية والهونية والروسية والهندية والعربية واللاتينية... وغيرها. لكن العثمانية هي اللغة الأقرب، والتي استمرت فترة هي الأطول، والأكثر ازدهاراً، خصوصاً وأنها لا تختلف عن اللغة التي سبقتها، وهي امتداد لها، وطبعاً المقصود بها اللغة السلجوقية.

بعد جدل طويل، حُسم الأمر واتُّخذ القرار، واختار الأتراك الحرف اللاتيني لكتابة لغتهم، وحققوا قفزات كبيرة على هذا الصعيد، في تطوير لغتهم وتبسيطها، لكن القطيعة مع الماضي بقيت غصة في قلوب كثيرين من الأتراك وغير الأتراك، فلا يستطيع الأتراك اليوم الاستمتاع بقصائد السلاطين العثمانيين، أو كبار الشعراء الذين عاشوا قبل قرنين، إضافة إلى 95 مليون وثيقة محفوظة في الأرشيف العثماني، والذي بات مفتوحاً للباحثين والدارسين، من أجل ترجمته وشرحه، وإصداره ونشره إلى العلن، وهي وثائق غاية في الأهمية، إذ تحتوي على كثير من تفاصيل حياة شعوب، عاشت في البوتقة العثمانية، ومنها الشعب العربي، ولعل الشعب العربي يشكل غالبية ذلك الشعب العثماني. ما الحل؟ هل يبقى الأمر بيد بعض المختصين فقط؟ وكم من المختصين تحتاج ترجمة 95 مليون وثيقة في الأرشيف العثماني؟

ليس هناك من يدعو إلى العودة إلى اللغة العثمانية، فقد استقرت اللغة، وقطعت شوطاً كبيراً. ولكن، هناك دعوة لنشر تعليم هذه اللغة، وقد اتخذت حكومة "العدالة والتنمية" قراراً جريئاً باعتماد اللغة العربية مادة اختيارية في المدارس التركية، وحققت اللغة العربية، خلال فترة قصيرة، انتشاراً واسعاً لم يكن متوقعاً، وعندما أُقرت العربية في التعليم واجهت انتقادات واسعة أيضاً.

أخيراً، اتخذ مجلس شورى التربية في تركيا قرارَ توصية بإدراج اللغة العثمانية درساً إجبارياً في مدارس الأئمة والخطباء (المدارس الشرعية)، وفي الثانوية العامة الأدبية، واختيارياً في الثانوية العلمية والفنية، ويواجه هذا الأمر اليوم معارضة حادة على مستويات مختلفة. وبالطبع، يتخذ هذا النقاش أبعاد المهزلة، أحياناً، فقد قال أحد زعماء المعارضة: "وهل سنعلم أولادنا قراءة شواهد القبور؟" من المحزن أن تصل السياسة إلى اعتبار تعليم الأولاد لغة جدهم، أو والد جدهم فقط، ولغة مخزون ثقافي واجتماعي وسياسي، يمتد إلى عشرة قرون، ويصل إلى 95 مليون وثيقة، مجرد تعليمهم قراءة شواهد القبور.

المتابع لشؤون السياسة التركية يرى الجدل السياسي هذا عادياً، لكن الغريب، بل المدهش،  أن القوميين واليساريين العرب الذين كانوا، حتى الأمس، يهتفون كجوقة منتقدين سياسة قطيعة الجمهورية التركية مع ماضيها، هم أنفسهم الذين يقرعون طبول الخطر من عودة الجمهورية التركية إلى ذلك الماضي. نعم، ينطبق عليهم المثل العربي بالضبط: احترنا يا أقرع من أين نمشطك.

avata
عبد القادر عبد اللي

كاتب سوري مختص بالشؤون التركية، ترجم عن التركية 45 كتاباً