احتجاجات لبنان: الأزمات المعيشية تنفجر في وجه السلطة والمصارف

29 ابريل 2020
نيران مشتعلة في أحد المصارف في طرابلس(إبراهيم شلهوب/فرانس برس)
+ الخط -



انفجر الغليان الشعبي المتصاعد في لبنان، جراء الانهيار الاقتصادي المتزامن مع الغلاء غير المسبوق نتيجة تجاوز سعر صرف الدولار عتبة الـ4000 ليرة لبنانية (سعر الصرف الرسمي 1515)، باحتجاجات شعبية في أكثر من منطقة، كانت مدينة طرابلس (شمال لبنان) الساحة الأبرز لها، إذ شهدت أمس الثلاثاء، ولليوم الثاني على التوالي، مواجهات بين محتجين غاضبين وعناصر من الجيش، استمرت لساعات وتخللها إحراق عدد من المصارف.

وتفجّرت المواجهات أمس عقب تشييع الشاب فواز فؤاد السمان (26 عاماً) الذي سقط إلى جانب أكثر من أربعين جريحاً في مواجهات عنيفة دارت بين المحتجين والجيش مساء الإثنين، تخللها استخدام الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع لتفريق معتصمين خرجوا إلى الشارع اعتراضاً على الأوضاع المعيشية، واحتجاز المصارف لودائعهم وارتفاع معدل البطالة.
التطورات في طرابلس والتحركات الاحتجاجية في بيروت وغيرها من المناطق، ترافقت مع جلسة عقدها مجلس الوزراء في السرايا الحكومية أمس برئاسة حسان دياب للبحث في إجراء تحقيقات لتحديد الحسابات التي أجريت منها تحويلات مالية إلى خارج لبنان واتخاذ إجراءات بحق صاحبها، إضافة إلى إقرار تدابير آنية وفورية لمكافحة الفساد. وأعلنت وزيرة الإعلام منال عبد الصمد بعد الجلسة أنّ مجلس الوزراء أقر 4 تدابير فورية وآنية لمكافحة الفساد واستعادة الأموال.

وخلال الجلسة، قال دياب "إننا اليوم أمام واقع جديد، فالأزمة المعيشية والاجتماعية تفاقمت بسرعة قياسية، وجزء منها بفعل فاعل". وأضاف "من الطبيعي أن يخرج الناس إلى الشارع، وأن يفجّروا غضبهم مجدداً، كما فعلوا في انتفاضة 17 أكتوبر، خصوصاً بعدما تبيّن لهم وجود محاولات سياسية لمنع الحكومة من فتح ملفات الفساد"، متابعاً "نتفهّم صرخة الناس ضد السياسات التي أوصلت البلد إلى هذا الواقع الاجتماعي والمعيشي والمالي والاقتصادي، لكننا نرفض بشدة كل المحاولات الخبيثة لتشويه هذا التعبير بحرفه عن مساره عبر تحويله إلى حالة شغب، وبالتالي الاستثمار السياسي في حالة الشغب لخدمة مطامع ومصالح وحسابات شخصية وسياسية". وشدد على أن "العبث بالاستقرار الأمني ممنوع، ويجب أن تكون هناك محاسبة لهؤلاء العابثين، والدولة لن تقف مكتوفة الأيدي".

لكن كلام دياب بدا بعيداً عن مسامع المحتجين في طرابلس، وشهدت مسيرة تشييع السمان أمس شعارات تهاجم الطبقة السياسية والمصرفية، وتدعو إلى فتح تحقيق في قتل السمان، تبعتها مواجهات بين القوى الأمنية ومحتجين، وإحراق أكثر من آلية للقوى الأمنية، إضافة إلى إحراق عدد من المصارف في المدينة. وقالت فاطمة السمان، شقيقة فواز، لـ"العربي الجديد"، إنّ ما حدث أمس هو انطلاقة لموجةٍ جديدةٍ من الانتفاضة الشعبية على السياسات المالية والمصرفية وطبقة سياسية حكمت لبنان لعقودٍ وساهمت في تدميره تدريجياً وتحويله الى شركة تنهب الوطن وتمتصّ دماء اللبنانيين وتحرمهم من أبسط حقوقهم، مضيفة "مستمرّون بزخم أكبر رغم محاولات تخوين المنتفضين وتحميلهم ذنب ردود فعل قامت أصلاً على أفعال ممنهجة من قبل السلطة السياسية في طرابلس، ونعلم جيداً أنّ فواز وهو أب لطفلة عمرها 4 أشهر من عمر الانتفاضة سيكون واحداً من شهداء كثر قد يسقطون دفاعاً عن أرضهم ومطالبهم".

وكانت قيادة الجيش قد أصدرت بياناً أمس أعربت فيه عن "بالغ أسفها لسقوط شهيد خلال احتجاجات الإثنين"، مؤكدة "أنها فتحت تحقيقاً بالحادث". وجددت "تأكيدها احترام حق التعبير عن الرأي شرط ألا يأخذ التحرك منحى تخريبياً يطاول المؤسسات العامة والخاصة"، مع دعوة "المواطنين للالتزام بالاجراءات الامنية". فيما قرّرت جمعية المصارف إقفال المصارف في طرابلس بدءاً من أمس الثلاثاء "بسبب الاعتداءات".

وتعليقاً على أحداث طرابلس، قال المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش في تغريدة على "تويتر" إن هذه "الأحداث المأساوية ترسل إشارة تحذير للقادة السياسيين في لبنان، وهذا ليس الوقت المناسب لتبادل تصفية الحسابات أو الاعتداء على المصارف، بل إنها اللحظة التي يتعين فيها توفير الدعم الملموس للأغلبية المتزايدة من اليائسين والفقراء والجوعى من اللبنانيين".

وتضامن عدد من المناطق اللبنانية مع طرابلس، إذ نظمت مجموعات سلسلة تحركات في الجنوب والبقاع وبيروت وجبل لبنان، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، وجرى قطع عدد من الطرقات لبعض الوقت.
وتعليقاً على ما حصل، أشار النائب السابق عن طرابلس، القيادي في تيار "المستقبل"، مصطفى علوش، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ انتفاضة 17 أكتوبر انطلقت بوجه كل القوى السياسية التي عجزت عن إنتاج حلول مفيدة على كافة الأصعدة المالية والاقتصادية والاجتماعية، ومن الطبيعي أن يحصل الانفجار الكبير اليوم نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار وحالة اليأس التي يعيشها المواطن اللبناني وعجز السلطة عن الإصلاح. وتوقع أن "تتجه الأمور نحو مسار تصاعدي وفوضى مفتوحة قد لا تتمكن الأجهزة الأمنية حتى من السيطرة عليها إلا إذا تمكنت السلطة والحكومة من حزم أمرها وإنتاج حلول مفيدة، وهذا مستبعدٌ طالما أن حزب الله هو المتحكم بالقرار السياسي في البلد". ولفت إلى أنّ أي "علاج عبر تقديم مساعدات آنية من دون حلّ المشكلة الأساسية المتمثلة بحزب الله يبقى عبارة عن مهدئات للناس تبقى مفاعليها المخدرة لأسابيع وأشهر قبل عودة انتفاضة جديدة، وهذه المرة ليس باستطاعة نواب المنطقة وفعالياتها تهدئة الشارع، لأنّ الناس فقدت الثقة بكل القوى السياسية ولم تعد تستمع إلى دعواتها".


أما النائب عن طرابلس علي درويش، وهو عضو "كتلة الوسط المستقل" التي يرأسها رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، فوضع في حديث مع "العربي الجديد" علامات استفهام كبيرة على ما جرى في المدينة، "بشكل أظهر أن هناك من يحاول الاصطياد بالماء العكر، في خطوة تمهيدية لانفجار قريب بين الناس والمؤسسات، ما يحتم عليها تحديد هذه الجهات التي من شأنها أن تخلق حالة تدميرية". وأشار إلى أنه يعمل مع نواب المنطقة على تكثيف الاجتماعات "لوضع خارطة بالحلول والمعالجات لعلّنا نتمكّن من تخفيف حدّة الاحتقان والوقوف إلى جانب الناس لتحقيق مطالبها المحقة".

من جهته، قال رئيس بلدية طرابلس رياض يمق، لـ"العربي الجديد"، إنّ "ثورة الجياع انطلقت وهو ما كنا قد حذّرنا منه مراراً، لأن الأزمات تراكمت على مدى السنين". لكن يمق رأى أن "هناك لعبة سياسية ايضاً وراء الاشتباكات الليلية، خصوصاً أنّها كانت موجّهة بشكل مباشر إلى الجيش الذي هو حامي الوطن، ما يدلّ على وجود جهات تسعى إلى أخذ الأمور إلى منحى آخر أكبر من طرابلس وأكبر من مسألة جوع وفقر".

وتبرز مخاوف لدى ناشطين من لعبة تصفية حسابات بين القوى السياسية، في الحكم والمعارضة. وقال الناشط المدني في طرابلس فوزي فري، لـ"العربي الجديد"، إنّ هناك مندسّين في المسيرات الشعبية والوقفات الاحتجاجية يحاولون خلق الفوضى في الشارع وزرع القلق والخوف في نفوس المنتفضين لحملهم على مغادرة الساحات، وهم جهات معروفة، تتمثّل بأحزاب تملك أجندات خاصة، وتخوض المعركة مع المصارف في الميدان حيث تُرجِمَت ردود فعلها في التحركات الأخيرة أمام المصارف، سواء في الحمرا-بيروت، أو جنوباً وبقاعاً وأخيراً على صعيد الشمال. ولفت إلى أنّ هناك محاولات لحرف التحركات عن مسارها، ولكن المواطنين باتوا يدركون تماماً ألاعيب السلطة، ولكن يصعب في الوقت نفسه تدارك الفوضى ومعرفة من أطلق الرصاصة الأولى، فقنبلة واحدة يمكن أن تخلق مواجهات عنيفة كما حصل ليل الاثنين-الثلاثاء، مضيفاً "نحن مصرّون أكثر من أي وقت مضى على متابعة انتفاضتنا في طرابلس وهي عائدة بقوّة لاستعادة حقوقها التي نهبت منها على مرّ السنين".

وتبرز جهتان سياسيتان متنافستان في الوقت الراهن، الأولى تتألف من فريق رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل و"حزب الله"، والثانية جبهة معارضة يُعمَل على تشكيلها بين رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع ورئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط. وبعدما كانت المعركة في الأيام الماضية تتركز على محاولة إقالة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بدا أن هذا الخيار سقط.

وفيما كانت مصادر سياسية تروج، أمس، إلى أن رئيس الحكومة حسان دياب لم يطرح موضوع إقالة سلامة سابقاً، على عكس كل ما كان يحدث في الأيام الماضية، قال نائب الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم، أمس، في تصريحات نقلتها وسائل إعلام محلية، إن الأزمة تشير إلى "أخطاء متراكمة وأداء سلبي" من مصرف لبنان، مضيفاً أن "حاكم مصرف لبنان يتحمل المسؤولية في ما وصلنا إليه لكن ليس لوحده". وكان "حزب الله" دفع منذ البداية باتجاه تركيز الأزمة على سلامة، وهو ما يضعه محللون في سياق الانتقام بعدما سهّل حاكم المركزي تنفيذ العقوبات الأميركية وفتح الباب لها، وهي التي أغرقت الحزب في أزمة مالية مع إقفال منابع الدولارات عنه.

في مقابل المساعي التي قادها حزب الله عبر رئيس الحكومة، حملت السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيه، في جولاتها على الأطراف السياسية، رسائل تحذير من سيناريو الحرب على مصرف لبنان وحاكمه الذي يُعتبر خطّاً أحمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وأوصلت كلاماً بهذا الشأن للنائب جبران باسيل الذي يخوض بدوره معركة على سلامة، ويحضّر تياره لتحرك أمام مصرف لبنان في منطقة الحمرا يوم غد الخميس. لكن معلومات "العربي الجديد" تقول إن هذا التحرّك معلق بانتظار كلمة سلامة اليوم الأربعاء إلى اللبنانيين.