اتفاق فيينا وخلافات "عميقة" باقية

18 يوليو 2015

على هامش مفاوضات فيينا (يوليو/2015/الأناضول)

+ الخط -
كحال اتفاقيات سابقة حول الملف النووي الإيراني، فقد استقبل الاتفاق الذي أعلن عنه الثلاثاء بوجوم عربي، فيما الطرفان الموقعان، الدول الغربية الست برئاسة أميركا من جهة وإيران من جهة أخرى، أبديا رضاهما وارتياحهما عما جرى توقيعه. وشدد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على أنه سيواصل اتصالاته مع حكومة بنيامين نتنياهو، لشرح جوانب الاتفاق وطمانة تل أبيب. وبدا، كالعادة، متفهما القلق الإسرائيلي. فيما تحدث، في إشارة عابرة، أنه سيوفد ممثلاً عن الإدارة لاطلاع الرياض على الاتفاق، ربما لأن الرياض لم تنتقد في الساعات الأولى الاتفاق بصورة علنية، وبصوت مسموع. 
قلص اتفاق فيينا، كما اختصرته وكالات الأنباء، النشاطات النووية الإيرانية، في مقابل رفع العقوبات المالية والاقتصادية عنها، وخصوصاً رفع الحظر عن 120 مليار دولار مجمدة في مصارف أميركية وغربية، (باستثناء الحظر على توريد أسلحة ومعدات عسكرية إلى طهران). وقد أوضح أوباما أن الاتفاق لا يعني تطبيع العلاقات، كما الحال مع كوبا، وأشار إلى خلافات "عميقة" باقية، غير أن هذه الخلافات خفّت حدّتها إلى حد بعيد، فالخلاف حول الوضع في سورية تقلص إلى درجة اعتبر فيها أوباما إيران جزءاً من الحل، مع التغاضي المستمر عن دور مليشيات إيرانية، أو مدعومة من إيران، في إذكاء الصراع والاستهداف الممنهج والمشين للمدنيين.
علاوة على أن المفاوضات الطويلة، وما رافقها من أجواء، ومن تغطية إعلامية كثيفة، أميركية وإيرانية، أسهمت في كسر الجليد، وتنظيم الخلافات، وفي تطبيع صورة الساسة الأميركيين لدى الإيرانيين، وصورة الإيرانيين في أنظار الأميركيين. لن يكون مشهداً غريباً أو مفاجئاً، لو أن وزير الخارجية ورئيس فريق التفاوض الإيراني، محمد جواد ظريف، قصد البيت الأبيض مثلاً، حاملاً رسالة من الرئيس حسن روحاني إلى نظيره الأميركي، حول الحاجة إلى تطبيق الاتفاق بروح إيجابية، وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين طهران وواشنطن.

حجة أوباما الرئيسية أن الاتفاق أسقط الخيار الآخر الافتراضي، وهو المواجهة العسكرية. علماً أن الخيارات في الأصل لم تكن محصورة بين الدبلوماسية والحرب، فهناك خيار تشديد العقوبات، وخيار مواجهة التمدد الإقليمي الإيراني جنباً إلى جنب مع مواجهة داعش، وهو ما تغاضت عنه الإدارة الديمقراطية. حجة المعارضين في واشنطن (جمهوريو الكونغرس) أن من شأن الاتفاق أن يطلق سباق تسلح نووي في المنطقة، وربما في مناطق أخرى من العالم، بعد ان كرّس الاتفاق انضمام طهران إلى النادي الدولي النووي السلمي، وهي حجة غير قابلة للرد، فما هو حلال على طهران، ومن قبلها بصورة أكبر تل أبيب، لن يكون حراماً على غيرها، إلا إذا شاءت واشنطن اعتماد ازدواجية المعايير، وهو ليس أمراً غريباً على سجلها، فحتى بعض الأسلحة والمعدات التقليدية المتطورة كانت تخضع لحظر توريدها إلى دول عربية، وخصوصاً إلى السعودية، والمعترضون سابقاً هم أنفسهم تقريبا المعترضون حالياً على الاتفاق النووي مع طهران، فمنظورهم مصلحة دولة الاحتلال الإسرائيلية، وليس المصلحة الأميركية، وبالتأكيد ليس مصالح العرب، على الرغم من العلاقات الوثيقة وشبه الاستراتيجية التي تربط دولاً عربية بواشطن.
نجحت طهران في مفاوضاتها الماراثونية مع الغرب في إقامة ما يمكن تسميتها علاقات تفاوضية وثيقة، دامت مئات الساعات، وفي فصول مختلفة مع واشنطن والغرب. وليس هناك، بعد ترسيخ المناخ التفاوضي في سويسرا والنمسا، ما يمنع أن تخضع جوانب الخلافات "العميقة" الباقية للتفاوض، وبدون أن تتم بالضرورة تسميتها بعملية تفاوضية. يكفي اعتبارها مباحثات وحواراً واتصالات واستكشاف آفاق جديدة وأموراً من هذا القبيل. وسوف تكون طهران جاهزة لعبور هذا المنعرج الدبلوماسي، المدعوم بحضور عسكري متنام لها في المنطقة، عبر مليشياتها في العراق وسورية ولبنان، وغير متنامٍ في اليمن، بفضل "عاصفة الحزم" ثم "إعادة الأمل". أجل عملية تفاوضية جديدة من خلف ستار، أو تحت الأضواء غير الكاشفة، وسيكون في وسع الإدارة الديمقراطية الحمائمية القول إن التفاوض أفضل من المواجهة، فيما تواصل طهران، في الأثناء، بكل أسلحة الدمار، منازعتها شعوباً عربية على حق هذه الشعوب في تقرير مصيرها، وخصوصاً في سورية.
إيران يجب أن تكون جزءاً من الحل في سورية، يقول الرئيس أوباما. في وسع الإيرانيين الإجابة: شكراً. قلنا لكم ذلك من قبل، لكن بعض شركائكم الأوروبيين (فرنسا خصوصاً) عوقوا التقدم على هذا المسار. حسناً، لنواصل إجراء مباحثات سرية حول هذه المسألة.
مباحثات نصف ماراثونية، لردم الفجوات وتنظيم الحرب على الإرهاب. مباحثات مسترسلة يتم خلالها الفتك بمزيد من الضحايا السوريين، واقتلاع المزيد منهم، وقذفهم خارج الحدود، وتهديم كل ما يمكن تهديمه، وما لم يهدم بعد في المناطق السورية "غير المفيدة". وفي الأثناء، تسعى موسكو إلى التقريب بين واشنطن وطهران، تحت لافتة مكافحة الإرهاب. علماً أن هناك تحالفا عربيا دوليا ضد داعش. لكن، لا بد من توسيعه لكي يشمل طهران، مع أهمية مواصلة التغاضي عن سلوك دمشق "الفني" في مواصلة إلقاء عشرات البراميل المتفجرة يومياً على الأحياء السكنية، والاستعانة بغاز الكلور السام، من أجل عمليات ناجعة.
معالجات مثل هذه لحل الخلافات العميقة، تضاف إليها في المسألة العراقية، محاولة دمج الجيش العراقي بالحشد الشعبي، بعد أن أثبت الأخير "كفاءته" مقارنة بالجيش، ولا مانع من استبدال تسمية الحشد باسم آخر، منعاً للتقولات التي تنعت الحشد بالطائفية، ومن أجل ضم مزيد من المتطوعين والمجندين إليه (من مختلف الطوائف والمناطق)، مع الحاجة لتنسيق ميداني وعملاني بين التحالف الدولي الذي يستهدف داعش، وقيادة الحشد، ومعظمها عراقية، ما دام أن الهدف واحد.
لا حاجة للعرب إلى التشكي حيال الاتفاق وتداعياته المتوقعة وانعكاساته المباشرة على منطقتنا، فالإدارة الديمقراطية في واشنطن معنية بإبعاد شبح داعش، واحتواء هذا الخطر فحسب، من دون تعريض حياة جندي أميركي واحد للخطر، أما مصير الدول والشعوب فليقرره من يريد أن يقرره. وفي جميع الأحوال، فإن طهران جزء من حل المشكلات!
أمام ذلك، المطلوب من العرب رؤية الواقع كما هو عليه، والتماس سبل الدفاع عن وجودهم ومصيرهم، قبل فوات الأوان.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.