بعكس آمال قطاع عريض من الشعب الفلسطيني على اتفاق أوسلو، وتمنيات قيادة منظمة التحرير في تدشين مشروع الدولة الفلسطينية العتيدة على حدود عام 1967 وعاصمته القدس والتخلص من نير الاحتلال، وبغض النظر عما يقال بأن اتفاق أوسلو جسد نواة الكيانية الفلسطينية ورسخ المؤسسات والوجود الفلسطيني في الضفة وغزة، وأعاد إلى أرض الوطن عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين من الشتات، إلا أن الاتفاق في تداعياته وبنظرة شمولية لم يكن كذلك على الإطلاق وانتهى إلى واقع لم يتوقعه أي فلسطيني في أسوأ الأحوال التي من الممكن أن تؤول إليها القضية الفلسطينية.
رأت قيادة حركة فتح بالتحديد في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993م) الفرصة التي قد لا تتكرر لاستثمار الانتفاضة الشعبية والتضحيات العزيزة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، في حين ضاقت الأحوال بالقضية الفلسطينية وتفاقمت عزلة القيادة الفلسطينية الإقليمية والدولية بعد حرب الخليج الأولى في وقت كان هاجس الشرعية والتمثيل الفلسطيني ضمن أولويات القيادة الفلسطينية بعد بروز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" كفصيل وطني إسلامي ينافس فصائل المنظمة، خاصة حركة فتح في الحضور الجماهيري وفي مقاومة الاحتلال، وفي المقابل حضرت القيادة السياسية الإسرائيلية إلى أوسلو وفي ذهنها التخلص من عبء الاحتلال والتخلص من الثقل الديموغرافي في قرى ومخيمات التجمعات الفلسطينية، خاصة قطاع غزة التي تحولت مع تصاعد الانتفاضة إلى صداع مزمن، وحضرت القيادة العسكرية والمؤسسة الأمنية وهي متيقنة من دون أن تفصح أن الاحتلال بشكله القائم وصل إلى نهايته، وأعدت رزمة ملفات تحدد الأولويات والمصالح الاستراتيجية ذات الطابع الأمني العسكري في الضفة الغربية والتهديدات المحتملة من المناطق الفلسطينية في أي حل مستقبلي، ولم تغفل القيادة العسكرية اصطحاب طواقم من القانونيين وخبراء في الاتفاقيات الدولية لتحقيق أقصى الإنجازات على حساب الحقوق الفلسطينية وإضفاء شرعية على الاحتلال "إسرائيل" لأكثر من 78% من مساحة فلسطين التاريخية وتجريم نضالات الشعب الفلسطيني، وتقييد الكيان الفلسطيني المزمع إنشاؤه بقيود والتزامات أمنية وسياسية واقتصادية بعيدة المدى تخدم "إسرائيل" بما لا يتناسب مع أدنى الحقوق الفلسطينية، وحتى عام 1998 مع انقضاء فترة المفاوضات للمرحلة الانتقالية الخمس سنوات والتحول من صيغة الحكم الذاتي إلى الدولة الفلسطينية، ومفاوضات "واي ريفر" بين رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات برعاية أميركية، والتي اكتشف فيها عرفات بأن "الإسرائيليين" قد خدعوه وأن الأميركيين قد ضللوه، وما اتفاق أوسلو سوى مناورة مخطط لها مسبقاً لإنهاء الانتفاضة وتشكيل سلطة وهمية عليها واجبات أمنية من دون التزامات "إسرائيلية" حقيقية، ومع مرور السنوات واستجلاء الصورة تبين كارثية اتفاق أوسلو وتداعياته على المشروع الوطني برمته، وترسخت حقائق على الأرض لصالح "إسرائيل" وعلى حساب الحقوق الفلسطينية، ومن أهم هذه التداعيات التي أثقلت على القضية الفلسطينية برمتها واستشعرها كل فلسطيني في الداخل أو الشتات:
أولاً: تكريس واقع سلطة وهمية تحمي الاحتلال
بالمحصلة ومن دون الخوض في التفاصيل، فإن "إسرائيل" نجحت بامتياز في تطوير احتلالها المناطق الفلسطينية لتحوله إلى احتلال "ناعم" من دون أن تتحمل "إسرائيل" أي تكاليف وتحسن صورتها أمام العالم بعيداً عن المس بجوهر الاحتلال، فقد أفرز اتفاق أوسلو سلطة بصلاحيات بلدية وأجهزة أمنية متضخمة من دون أن تمارس هذه السلطة أي شكل من أشكال السيادة، وبدل أن يحمي رجل الأمن الفلسطيني أمن المواطن ويدافع عن الوطن من الاعتداءات الإسرائيلية، أصبح دوره ينحصر في حماية أمن المستوطنين ومحاربة المقاومة، وبدل أن يشكل المؤسسات الفلسطينية والوزارات التي من المفترض أن تكون سيادية ورافعة لمشروع الدولة الفلسطينية تحولت إلى مكاتب خدمية غارقة في مشاكل المواطنين الحياتية وفي معالجة تغول الاحتلال وتعدياته خاصة في الضفة الغربية، وعززت "إسرائيل" هذه السلطة الوهمية بمحفزات مالية برعاية أميركية وتحمس أوروبي والذي أوجد جيش من الموظفين يعتمد على المال السياسي الذي تقدمه أوروبا ودول العالم الأخرى، كما أوجد طبقة منتفعة مالياً وسياسياً من قيادات هذه السلطة تشابكت مصالحها مع استمرار وبقاء هذه السلطة، وتضخمت هذه الطبقة وتعاظمت منافعها مع التشجيع "الإسرائيلي" بخدمات (VIP) وحرية السفر إلى الخارج لتحول المشروع الوطني إلى لقاءات وزيارات ومباحثات وسفريات هنا وهناك حتى إن المسؤول يقضي أكثر من نصف أيام السنة خارج الوطن في الفنادق، وفي التنقل بين العواصم وفي حضور المؤتمرات التي قد يكون أو يكون للشأن الفلسطيني علاقة بها.
ثانياً: انقسام سياسي ثم الانقسام الجغرافي
لم يكن الانقسام الجغرافي بين غزة والضفة عام 2007 إلا نتيجة منطقية لحالة الانقسام السياسي الذي تبلور مع توقيع اتفاق أوسلو، فقد جسد الاتفاق منهجين مختلفين؛ الأول الذي انخرط في مشروع التسوية بالاستناد إلى البعد الإقليمي والدولي على أرضية الشرعية الدولية، والثاني مشروع المقاومة والتمسك بالثوابت ورفض الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية، ومع الوقت تحول الانقسام السياسي إلى انقسام وشرخ أفقي على المستوى الجماهيري وعمودي على مستوى النخب السياسية والثقافية، وبما أن مشروع التسوية هو خيار النظام العربي الرسمي وبالتأكيد الخيار "الإسرائيلي" والأميركي بإسناد أوروبي فإن الانقسام لا محالة واقع بين أغلبية الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة وبين أنصار التسوية من تيار حركة فتح وبعض الفصائل الثانوية الأخرى التي تشكل العمود الفقري للسلطة الفلسطينية.
ثالثاً: توفير بيئة آمنة للمستوطنين في الضفة الغربية
التنسيق الأمني جوهر اتفاق أوسلو ساهم ليس في تقليص المقاومة فحسب، بل نجح في منعها كاملاً لعدة سنوات متواصلة وباستثناء مرحلة انتفاضة الأقصى عام 2000 حتى اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، والتي تراجع فيها التنسيق الأمني بشكل كبير، فإن هذا التنسيق أوجد بيئة مريحة للاحتلال والمستوطنين خاصة بعد عام 2005، وإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية بإشراف الجنرال الأميركي كيث دايتون في الضفة الغربية وإعادة تشكيل قيادة السلطة بما يخدم الهدف "الإسرائيلي" وإدامة وتعميق التنسيق الأمني، وتراجع المقاومة وغيابها بالكامل ولفترات طويلة ، شجع المستوطنين وبدعم من حكومات اليمين المتطرف على الاستيطان في الضفة الغربية وزيادة ما يسمى بالبؤر الاستيطانية العشوائية، فلم يكن يتجاوز عدد المستوطنين عام 1993 في الضفة الغربية 116 ألف مستوطن، وفي القدس 144 ألفاً، أما في عام 2016 فقد وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى 420 ألف مستوطن، و240 ألف مستوطن في القدس، أي زيادة بحوالي 300% منذ اتفاق أوسلو حتى الآن، وهو ما أدى إلى سيطرة المستوطنات التي يبلغ عددها الآن 128 مستوطنة، 116 بؤرة استيطانية على حوالى 60% من مساحة الضفة الغربية وخلق واقعاً يستحيل معه قيام دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي وسكاني.
رابعاً: إضعاف الموقف الفلسطيني وتعزيز مكانة "إسرائيل" الإقليمية والدولية
ذهاب منظمة التحرير إلى أوسلو منفردة وإجراء مفاوضات سرية ساهم في إبعاد القضية الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي، وتوفير الذريعة للمهرولين من الدول العربية والإسلامية لنسج علاقات سرية وعلنية مع "إسرائيل" ، وتشجيع التطبيع معها على أرضية أن الفلسطينيين لهم سلطة ويفاوضون نيابة عن أنفسهم وهم أعرف بمصلحتهم "وهم ليسوا بملكيين أكثر من الملك"، كما وظفت "إسرائيل" اتفاق أوسلو والسلطة الفلسطينية الناتجة عنه في تحسين صورتها أمام العالم وتوسيع مساحة علاقاتها الدولية، ومواجهة حملات المقاطعة الدولية من منطلق وجود مسيرة سلمية ومفاوضات مع السلطة الفلسطينية والغير متحمسة لمواجهة "إسرائيل" على الساحة الدولية.
خامساً: تشكيل سلطة خاضعة للابتزاز "الإسرائيلي" وفاقدة لروح المبادرة الوطنية
التفصيلات في اتفاق أوسلو، والتي رسخها المفاوض "الإسرائيلي" في الاتفاق بعد عمق دراسة وتوجيهات من المؤسسات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وضعت قيوداً حقيقية على السلطة الفلسطينية وحوّلتها إلى أشبه بسلطة تابعة للاحتلال، فالمال السياسي والاتفاقيات الاقتصادية والملاحق الأمنية لم تترك هامش مناورة لقيادة السلطة للقيام بمبادرات سياسية لصالح القضية أو التحرك النشط على الساحة الدولية ومخاطبة العالم بما يخدم الشعب الفلسطيني، كما أفسح ذلك المجال "لإسرائيل" لمحاسبة السلطة على كل كبيرة وصغيرة وفي جعبتها حزمة متنوعة من أدوات الضغط لا تقوى السلطة على مواجهتها، وهذا بالإضافة إلى استناد السلطة في شرعيتها ووجودها إلى النظام الدولي القائم والمستند إلى محورية الدور الأميركي والأوروبي والذي لا يتوقع منه إنصاف الشعب الفلسطيني والتخلي عن انحيازه لإسرائيل، وهو ما يعرضه أيضاً للضغط والابتزاز على الدوام وسلوكيات الولايات المتحدة مع السلطة أكثر من أن يتم ذكرها.
(كاتب وباحث فلسطيني)
اقــرأ أيضاً
أولاً: تكريس واقع سلطة وهمية تحمي الاحتلال
ثانياً: انقسام سياسي ثم الانقسام الجغرافي
لم يكن الانقسام الجغرافي بين غزة والضفة عام 2007 إلا نتيجة منطقية لحالة الانقسام السياسي الذي تبلور مع توقيع اتفاق أوسلو، فقد جسد الاتفاق منهجين مختلفين؛ الأول الذي انخرط في مشروع التسوية بالاستناد إلى البعد الإقليمي والدولي على أرضية الشرعية الدولية، والثاني مشروع المقاومة والتمسك بالثوابت ورفض الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية، ومع الوقت تحول الانقسام السياسي إلى انقسام وشرخ أفقي على المستوى الجماهيري وعمودي على مستوى النخب السياسية والثقافية، وبما أن مشروع التسوية هو خيار النظام العربي الرسمي وبالتأكيد الخيار "الإسرائيلي" والأميركي بإسناد أوروبي فإن الانقسام لا محالة واقع بين أغلبية الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة وبين أنصار التسوية من تيار حركة فتح وبعض الفصائل الثانوية الأخرى التي تشكل العمود الفقري للسلطة الفلسطينية.
ثالثاً: توفير بيئة آمنة للمستوطنين في الضفة الغربية
التنسيق الأمني جوهر اتفاق أوسلو ساهم ليس في تقليص المقاومة فحسب، بل نجح في منعها كاملاً لعدة سنوات متواصلة وباستثناء مرحلة انتفاضة الأقصى عام 2000 حتى اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، والتي تراجع فيها التنسيق الأمني بشكل كبير، فإن هذا التنسيق أوجد بيئة مريحة للاحتلال والمستوطنين خاصة بعد عام 2005، وإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية بإشراف الجنرال الأميركي كيث دايتون في الضفة الغربية وإعادة تشكيل قيادة السلطة بما يخدم الهدف "الإسرائيلي" وإدامة وتعميق التنسيق الأمني، وتراجع المقاومة وغيابها بالكامل ولفترات طويلة ، شجع المستوطنين وبدعم من حكومات اليمين المتطرف على الاستيطان في الضفة الغربية وزيادة ما يسمى بالبؤر الاستيطانية العشوائية، فلم يكن يتجاوز عدد المستوطنين عام 1993 في الضفة الغربية 116 ألف مستوطن، وفي القدس 144 ألفاً، أما في عام 2016 فقد وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى 420 ألف مستوطن، و240 ألف مستوطن في القدس، أي زيادة بحوالي 300% منذ اتفاق أوسلو حتى الآن، وهو ما أدى إلى سيطرة المستوطنات التي يبلغ عددها الآن 128 مستوطنة، 116 بؤرة استيطانية على حوالى 60% من مساحة الضفة الغربية وخلق واقعاً يستحيل معه قيام دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي وسكاني.
رابعاً: إضعاف الموقف الفلسطيني وتعزيز مكانة "إسرائيل" الإقليمية والدولية
خامساً: تشكيل سلطة خاضعة للابتزاز "الإسرائيلي" وفاقدة لروح المبادرة الوطنية
التفصيلات في اتفاق أوسلو، والتي رسخها المفاوض "الإسرائيلي" في الاتفاق بعد عمق دراسة وتوجيهات من المؤسسات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وضعت قيوداً حقيقية على السلطة الفلسطينية وحوّلتها إلى أشبه بسلطة تابعة للاحتلال، فالمال السياسي والاتفاقيات الاقتصادية والملاحق الأمنية لم تترك هامش مناورة لقيادة السلطة للقيام بمبادرات سياسية لصالح القضية أو التحرك النشط على الساحة الدولية ومخاطبة العالم بما يخدم الشعب الفلسطيني، كما أفسح ذلك المجال "لإسرائيل" لمحاسبة السلطة على كل كبيرة وصغيرة وفي جعبتها حزمة متنوعة من أدوات الضغط لا تقوى السلطة على مواجهتها، وهذا بالإضافة إلى استناد السلطة في شرعيتها ووجودها إلى النظام الدولي القائم والمستند إلى محورية الدور الأميركي والأوروبي والذي لا يتوقع منه إنصاف الشعب الفلسطيني والتخلي عن انحيازه لإسرائيل، وهو ما يعرضه أيضاً للضغط والابتزاز على الدوام وسلوكيات الولايات المتحدة مع السلطة أكثر من أن يتم ذكرها.
(كاتب وباحث فلسطيني)