وفي السياق، كشف مصدر دبلوماسي غربي في القاهرة، لـ"العربي الجديد"، تفاصيل بعض الاتصالات التي أجرتها بعثات غربية مهتمة بمتابعة مسار التعديلات الدستورية، ببعض القضاة من المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض ومجلس الدولة. وتمحورت هذه الاتصالات حول احتمالات تصدي القضاء لرغبة السيسي المتزايدة في السيطرة على السلطة القضائية و"نزع أظافرها"، وإنهاء أدوارها في حسم قضايا الرأي العام، خصوصاً في السنوات التي تلت ثورة يناير، وعقب قضية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، والتي مثّلت أحكام مجلس الدولة فيها أكبر ضربة قانونية لنظام السيسي وشرعيته حتى الآن، ولا تزال آثارها باقية حتى بعد تدخّل المحكمة الدستورية العليا لتحصين قرار التنازل واتفاق ترسيم الحدود مع المملكة.
وذكر المصدر أنّ القضاة الذين تمّ استطلاع آرائهم أبلغوا الدبلوماسيين الأجانب بـ"عدم وجود أي فرصة لاستعادة أجواء السنوات الأخيرة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، عندما اصطدم النظام مع نادي القضاة، وحصل الأخير على دعم القوى السياسية المختلفة، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين والحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) والأحزاب الناصرية واليسارية". وهو الحراك الذي كان من العوامل الرئيسية لضغط الدول الأجنبية على مبارك لفتح المجال العام وإحداث تغييرات سياسية، حاول هو الالتفاف عليها بالتعديل الدستوري الذي أجراه عام 2007 بهدف ضمان نقل السلطة بشكل يبدو ديمقراطياً، لنجله جمال.
وأضاف المصدر أنّ القضاة عبروا للدبلوماسيين الأجانب عن "خشيتهم من التعرّض للتنكيل الجماعي، إما من خلال تخفيض رواتبهم بحجة توفير المليارات لميزانية الدولة، أو الفصل من الخدمة حال الكتابة على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، أخذاً في الاعتبار وقائع مشابهة حصلت العام الماضي بعد إحالة العشرات من القضاة للتفتيش، ثمّ مجلس الصلاحية جراء اعتراضهم على سياسات اقتصادية معينة". كما كشف القضاة، وهم من هيئات مختلفة، تلقيهم تهديدات صريحة بتحريك دعاوى تأديبية ضدّهم حال الإقدام على الدعوة لجمعيات عمومية أو اجتماعات لمناقشة التعديلات.
أمّا القضاة في المحكمة الدستورية ومجلس الدولة، فتبدو مخاوفهم، بحسب المصدر الدبلوماسي، أعمق من مجرّد التنكيل بالأفراد، فخشيتهم الآن من إلغاء الهيئتين نهائياً، وإذابتهما في مشروع كانت وزارة العدل قد طرحته للنقاش في الأشهر الماضية وهو "القضاء الموحّد". ويقوم هذا المشروع على دمج جميع الهيئات القضائية في كيان واحد تحت إدارة مباشرة من وزارة العدل، لتحقيق مزيد من السيطرة الفنية والسياسية على القضاة من جهة، وتخفيض المخصصات المالية للقضاة ككل وتقليل عدد الموظفين المعينين سنوياً في كل هيئة، من جهة أخرى، بما يتماشى مع سياسة السيسي في تخفيض الإنفاق الحكومي على العاملين المدنيين.
وتعليقاً على هذه المخاوف، قال المصدر الدبلوماسي الأجنبي إنه "ليس لدى الاتحاد الأوروبي أو دول الاتحاد أو حتى الولايات المتحدة، ما يمكنهم ممارسته من ضغوط على السلطة المصرية لوقف قطار التعديلات الدستورية الذي انطلق في طريق ممهدة، وعلى متنه مواد قد تنعكس بالسلب على الداخل المصري لعقود، وربما تترك تبعات أسوأ من استمرار السيسي في السلطة مدى الحياة"، على حد تعبيره.
وتابع المصدر أنه "كل ما يمكن للدوائر الأوروبية فعله، هو أن تدعو السلطة لفتح حوار أوسع حول التعديلات خلال فترة الستين يوماً الفاصلة بين الموافقة المبدئية والنهائية قبل إجراء الاستفتاء، وعدم التضييق على الأصوات المعارضة. لكن لا يوجد طرف مستعد لبذل مزيد من الجهود لوقف مدّ فترة حكم السيسي أو تقليص دور القضاء والبرلمان وتوسيع دور الجيش، في ظلّ صمت القضاة في المقام الأول، وتعذر توحيد القوى السياسية على موقف واحد".
وتضمن التعديلات الدستورية، إلى جانب بقاء السيسي في الحكم حتى 2034 على الأقل، أن يعيّن الأخير رؤساء جميع الهيئات القضائية بما في ذلك المحكمة الدستورية العليا، وتجريد مجلس الدولة من صلاحياته الإلزامية في مراجعة مشروعات القوانين والإفتاء ومراجعة العقود، وحرمان جميع الهيئات من استقلال موازناتها المطبق منذ 2012.
وعكس العام الماضي 2018 اهتمام السيسي بإحداث تغيير جوهري في تشكيل الهيئات القضائية، فبدأ العبث في طريقة اختيار القضاة الجدد وإدخال عوامل جديدة للترشيح، ومناهج جديدة للتدريب تركز على الأفكار السياسية والعسكرية وليس القانونية، فضلاً عن إجبار الهيئات على تدريب الملتحقين الجدد بها في أكاديمية ناصر العسكرية ثم الأكاديمية الوطنية للشباب.
واختتم السيسي العام بإحياء مجلس جامع للهيئات القضائية تحت اسم "مجلس الهيئات القضائية" سيتم النصّ عليه دستورياً في التعديلات الجديدة، ليكون مشابهاً للمجلس الأعلى للهيئات القضائية الذي كان قائماً في عهدي الرئيسين السابقين أنور السادات وحسني مبارك، وفق دستور 1971، وتم إلغاؤه بعد ثورة 2011 بناء على مطالبات من القضاة، باعتبار أنّ المجلس كان يهدف للسيطرة على الهيئات بواسطة وزير العدل الذي كان يرأس اجتماعات المجلس فعلياً، بهدف توحيد آراء القضاء تجاه الملفات المختلفة التي قد تثير أزمات بين الهيئات، لتسهيل التعامل ومحاصرة مساحات الخلاف والمعارضة.