ابن الرَّقة... وتجذّر معاناته!

17 ابريل 2019
+ الخط -
عانى المواطن في الرَّقة، كغيره من أبناء المحافظات السورية، المزيد من حالات الإحباط والتوتر واللوّعة، وهذا ما استدعى من أبنائها أن يعيدوا النظر بهذه الحالة المضطربة التي تركت بالنسبة لهم أكثر من إشارة استفهام.

المعاناة كانت كبيرة جداً، ورافقتها قسوة من نوع خاص، وحوار داخلي مع الذات، أفرزت إرهاقاً جسدياً ونفسياً لم يسبق لابن الرّقة أن عايش مثل هذا المشهد الدرامي الذي أخرجه عن إرادته، وتصرّف بتهوّر، فاتخذ من النزوح طريقاً يحفظ، على الأقلّ، ماء وجهه، وهذا ما كان.

وإنَّ الدوائر عادت الكرّة، في هذه المرّة، فقلّبت أوجاع أهلها، التي احتضنت يوماً النازحين الفارّين من المدن الكبيرة كحلب، ودير الزور، وحمص، وإدلب، وحماه، وها هي الرّقة اليوم، تُصاب بالعاهة ذاتها، بسبب الدمار والخراب الذي لحق بها، ما دفع أبناءها للنزوح عنها، جرّاء الواقع المأساوي والحصاد المرّ الذي حول كل شيء جميل في حياتهم يوماً إلى ألوان من الألم والحسرة!

وتعجز الكلمات عن وصف آلة الدمار التي نالت منها، فضلاً عن حالة الوحشة والهوان التي أصابت ابنها في الصميم، وما صاحب ذلك من معاناة، ولا سيما أن الوضع الذي يمر به غريب الأطوار، وهو الذي يختلف عن البقية من أبناء المدن السورية، معللاً واقعاً ما زال يتأزّم يوماً بعد آخر، وهذا ما زاد من تفاقم المعضلة، وأفرز عناوين كبيرة!


بمعنى آخر، إنَّ ابن الرَّقة لا يمكن له أن يستمر على هذه الحالة، وهو غير قادر أن يحتمل مجرد وصف الواقع الذي يعيش، ولكن فرض عليه، ما اضطر العديد من العائلات للنزوح إلى القرى والمدن القريبة للمدينة، ومنهم من ساعدته ظروفه على السفر بعيداً طالباً اللجوء في بلاد النعيم رغم خطورة الموقف، إلا أنَّ غالبية العائلات تلك التي نزحت عن الرَّقة لم تحتمل البعد عنها فعاد قسم كبير منها إلى بيته، بعد غياب أيام معدودة، ومنها من استمرَّ أشهراً، وها قد عاد قسم كبير منهم إلى منازلهم برغم الدمار الكبير الذي لحق بها، والخراب الذي حوّل دورهم السكنية وشوارع المدينة المنكوبة إلى مجرد أشباح مرعبة، فضلاً عن الصعاب العديدة التي رافقتهم، وهم يأملون الاستقرار في هذه المدينة، التي نالت نصيبها، مع ما شهدته أخواتها المدن السورية، من معاناة وكرّ وفرّ، ونقص في المواد الغذائية والتدفئة والمحروقات، والأهم من هذا وذاك ما تعرّض له المواطن من اهانة وإذلال، ناهيك بالقتل الذي طاول قسماً كبيراً من أهلها من قبل العصابات الإجرامية ومثالها "داعش"، ولأتفه الأسباب!!

إنّ ابن الرَّقة عاش مرارة الواقع والمعاناة بكل أبعادها، ونأمل لهذه الأزمة، والحال الذي ترك في ذات كل واحد من أبنائها تساؤلات عدّة، أن لا تطول، والإبقاء على هذه الخطوات التي هيأت له بأن يقتصر على بعض الحلول التي يرمي إليها ابنها ويأمل بها، ويطالب بتسريعها اليوم.

الرّقة، عروسنا التي تفرض محبتها وعشقها في عيون وقلوب أهلها الذين ظلّوا يتهامسون خفيةً بالألق والبهاء الذي حلّ بها، والراحة التي يعيشها أبناؤها في ظل نهرها الخالد، ها هي اليوم قتيلة، جريحة، تنزف دماً جرّاء الإعصار الهادر، والدمار المهيب الذي أحالها إلى صور مأساوية لم تعد العين تتقبل ما حدث لها، وهي الأم الرؤوم التي حاكت الإنسان القديم الذي استوطنها وعاش معها أيـــــاما لا تنسى.

ويبقى السؤال إلى متى يظل أهلها يعيشون في موقف حذر جرّاء هذا الواقع الذي لا يمكن له أن يحقّق هدفاً ومرمى، بل يزيدهم معاناة وألماً، ويبعث في نفوسهم مزيداً من الهلع، ويحفر في قلوبهم أوجاعاً وحرقة وأسى؟!

أليس من الأجدى أن نعيد النظر بواقع مدينة وشعب لم يعرف يوماً طعم النزوح والهجرة التي اضطر أن ينغمس فيها وأن يعيش مأساتها، وانقلبت السعادة، التي كان يعيشها يوماً، وبفرح حقيقي، إلى خوف مزمن، وانتظار مضنٍ، وتعب جسدي، وترقب لمستقبل خجول؟

وهذا المستقبل ظل بحاجة إلى طريق يقوّي مفاصله، ويُنعش آماله، ويمضي بأبناء الرَّقة إلى طريق مستقيم، ويخلو من أي ضغينة.. وهذا ما التقطته كاميرتنا التي أبت إلّا أن تنقل وقائع الحياة كما هي.. وبوسعنا أن نقول: إنَّ هذه المحصلة ما هي إلا صور بغيضة لماضٍ مرعب، ويحدونا الأمل بتجاوز الصور الكئيبة التي نراها اليوم تتجلى في كل مكان؛ وإن صارت الحياة تعود رويداً رويداً إلى سابق عهدها، ولكن بعيداً عن أبنائها وحضورهم الملفت الذي كان يفرحنا وجودهم، واليوم، ما يثيرنا هو غياب الكثيرين منهم وتوزعهم في بلاد الله الواسعة، ورحيل من رحل إلى دنيا الفناء، وهذا ما يجعل الصورة أكثر حزناً وألماً ومقتاً!

من القلب الذي يقطر دماً وعشقاً، إلى مدينتي الحبيبة التي تنتظر قيامها من رقاد الأموات، أقولها: ليبارك الرحمن مدينة الأحلام، مدينة الرحمة والغفران، المدينة التي احتضنت الناس البسطاء الذين عاشوا في ظلّها، واستهواهم مقامها ومفردات اللهجة التي طبعت في وجدان من زارها وتعرف إلى أبنائها.

إنها الرّقة المدينة العزيزة ولا غير سواها، هي التي بقيت في القلب ولا تزال..
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.