إيّانا والاستقالة من الأمل

02 فبراير 2015

إيّانا الاستقالة من الأمل والتردّد في التفاؤل (Getty)

+ الخط -

لم يسبق للأمة العربية، دولاً ومجتمعات، أن شهدت أزمات بمثل الخطورة التي تجابهها حالياً. فقد واجهت شعوبنا تفاقم المشكلات، ولكن ليس بحجمها الحالي. كما عانت شعوبنا من انقسامات بمستويات متنوعة وخطيرة، لكن ليس بما تختبره في الأوضاع السائدة. كنا نعزو ذلك إلى أننا أمة غنية وشعوب فقيرة. وعلى الرغم من سوء الحالة السائدة، طوال القرن العشرين وسنوات العقد الأول من القرن الحالي، لم يفارقنا الأمل واحتمالات التصحيح واستئناف التطور الإيجابي للحالة العامة السائدة.

ثم ما وصف بـ"الربيع العربي"، وما تضمّنه من إجراءات واعدة. انتفضت الأجيال الجديدة، وفي عدد من دول الأمة، كان سقوط أنظمة مستبدة، وكن حراك الجماهير واعداً وملهماً. كانت حيوية الجماهير واضحة، ولكن، إلى حد كبير، تفتقد إلى إطارات تنظّمها ومرجعية توجّهها. هذا أفقد مسيرة الجماهير وحيويتها، كون البوصلة بقيت مفقودة، وإلى حد كبير أخذ العد العكسي، ما حرف مسيرة الانتفاضة إلى ما تعانيه الأمّة حالياً من شطط وانحرافات، ناهيك عن حروب أهلية وعبثية، وقد تخلّت حكومات عديدة، بشكل مثير ومعيب، عن مسؤولياتها وأولوياتها، ولا سيما تمكين المواطن، وحمايته خصوصاً.

ثم تفاقمت الأوضاع إلى مستوى الانهيارات، وأخذت تتفاقم حدّة، ما آلَ الحال إلى حروب عبثية بين قبائل وطوائف ومكوّنات عرقية، وما أدّى إلى تحوّل مجموعات من سلامة التنوع إلى شطط التعددية. استولد هذا تكاثر الانقسامات في ليبيا والطائفية في كل من العراق واليمن، وإسقاط الجنوب في السودان، وتعزيز التوترات الطائفية في لبنان ما حوّله من وطن للمواطنين إلى إطار جغرافي لتعدّدية الطوائف.

وهذا ما يفسّر عجز لبنان لانتخاب رئيس للجمهورية، بعد نحو 20 اجتماعاً للمجلس النيابي من دون الحصول على النصاب. وعلى الرغم من هذا الشطط المريب، تمكّن المجتمع المدني اللاطائفي، كما المنظمات النسائية، من ردع خطر الانقسام، إضافة إلى اتحاد نقابات العمال، فبقيت جميع هذه المؤسسات في منأى عن عيوب الطائفية. أكثر من ذلك، تمكن وزير الصحة مثلاً، الاشتراكي وائل أبو فاعور، بنجاح مميّز من استئصال الفساد في المستشفيات، كما في الصيدليات التي تاجرت بأدوية فاسدة، بشكل جعله يتمتّع بثقة قلّ نظيرها في لبنان. كما أن حكومة تمام سلام استوعبت، وإن بصعوبة، العبء الأكبر للاجئين السوريين. وهذا لا يحرف أنظارنا عن مخيمات لجوء السوريين في الأردن وتركيا، والأشد أن نحو ثمانية ملايين سوري خارج بيوتهم وقراهم. ناهيك عن أكثر من نحو ربع مليون شهيد من الشعب السوري، وتفشّي منظمات إرهابية، واستمرار التدمير الحاصل على البنى التحتية للدّولة، وعلى المنازل والسكّان.

...صحيح أن تونس بقيت، إلى حد كبير، في منأى عن هذا التفكّك المتزايد الذي يتنامى في دول عربية عديدة، إضافة إلى التمزّق الطائفي والعرقي في وضع شديد التعقيد، ما يحول دون استعادة سريعة للوحدة الوطنية، حيث إن الإمعان في التمزق كاد أن يلغي سمة الدولة لهذه المجتمعات والدّول.

في وجه هذه التحديات، تبقى فلسطين سجينة اللاحسم، والسلطة الفلسطينية تأخذ إجراءات مصالحة مع حماس، ثم تقعان في مصيدة فقدان الثقة، ويصبح الحوار متعثراً، كما حصل، أخيراً، في محاولة للإجابة عن موضوع وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وهو التنسيق الذي تمّ في عهد رئيس وزراء فلسطين سلام فياض (الموظف السابق في البنك الدولي)، وعطل حصول هذا التنسيق المقاومة المشروعة والمطلوبة لمجابهة التمدّد الاستيطاني المتواصل، كونه أضرّ كثيراً بضرورة المقاومة التي تجابه كلّ ما أفرزته إسرائيل الغاصبة من خرق القوانين الدولية والشرعية. وكانت خطوة السلطة الفلسطينية عندما "تصالحت" مع حماس واعدة، وبالتالي، احتاجت لتعبئة شاملة للشعب الفلسطيني.

وساهمت هذه الأخطاء من القيادات الفلسطينية بحق شعبها في استمرار الاستيطان في الضفة الغربية، وتقلّص المساحة للقدس الشرقية المفترض أن تكون عاصمة فلسطين المستقلة. وكان تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة رامي الحمدلله، واعداً، وإذ بها تُهمّش، ما أدّى إلى ألا تكون المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية ناجعة في ردع العدوان الإسرائيلي الأعنف على غزة. وما زاد الأوضاع تعقيداً أن المعاهدة المصرية-الإسرائيلية أفقدت الشعب الفلسطيني، إلى حد ما، الدعم الكبير الذي تتوقّعه الأمّة العربية من مصر في قضية فلسطين. ونشير إلى هذه المعضلة وتعقيداتها، كون فلسطين، من المنظور القومي العربي، البوصلة التي تجمع عليها الجماهير العربية، تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً. وهذه أهمية فلسطين-القضية للأمة العربية التي طالما مكّنت الأمة أن تتضافر وتتوحّد في التزامها.

من هذا المنطلق، يصبح دور مصر مركزياً، كونها ساحة التلاقح والحوار والتلاحم بين المشرق والمغرب العربيين، والتي تجعل مصر مؤهلة لاستعادة دورها اللاحم لشعوب وأوطان الأمة.

...الأهم والمطلوب في هذا الظرف الذي نشهد فيه تراجع الالتزام القومي العربي، لا بسبب قناعة مغيبة، بل أمام هول الفجائع والتفكك والتحديات المرعبة وفقدان الثقة، كما مشاهد العنف والإرهاب، إلى درجة أن الاستقالة من الأمل أصبحت مكلفة بشكل خطير. لا بدّ ولا مفرّ من أن تصمّم الجماهير العربية إعادة الالتزام بالوحدة من خلال تنسيق ملزم بين الأقطار العربية، أن يدركوا أن ممنوعاً عليهم الاستقالة، خدمة لا للأمة العربية فحسب، بل للأجيال المقبلة التي سوف تصمّم على استعادة لحظة واعدة، تعيد إلى العروبة واقعيّتها، وللإسلام إنسانية حضارته، ولكل الأطياف حقوقها المدنية، كما للأمّة حقوقها القومية.

إيّانا الاستقالة من الأمل والتردّد في التفاؤل.