بين الجزائر وفرنسا وإسبانيا، تشتّتت هوية الكاتب والروائي، إيمانويل روبليس، (1914 - 1995)، المولود في مدينة وهران، غرب الجزائر، من عائلة تنحدر من أصول إسبانية هاجرت إلى الجزائر في الفترة الاستعمارية.
على عكس كثير من كُتّاب "الأقدام السوداء"، في أثناء فترة الاستعمار الفرنسي، عاش روبليس يتيماً في عائلة متواضعة؛ فقد مات والده بعد أشهر قليلة من ولادته، مما جعله أقرب ما يكون إلى الواقع الجزائري من القوى الأجنبية الاجتماعية التي كانت مهينمةً وقتها.
التحق روبليس بمدرسة عادية في الجزائر العاصمة، وكان يجلس إلى جانبه الكاتب الجزائري الراحل، مولود فرعون، فتوطّدت بينهما علاقة صداقة تجسّدت في لقاءات أدبية عديدة جمعتهما، ومراسلات بينهما، أشار إليها في مقالات كتبها عقب اغتيال فرعون، قبل أيام قليلة من استقلال الجزائر.
تعرّف روبليس أيضاً إلى ألبير كامو، خلال مساهمتهما في الكتابة لجريدة "الجزائر الجمهورية" اليسارية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي انضمّ إليها بوصفه مترجماً ومراسل حرب، ليعود إلى الجزائر عام 1947، حيث أسّس المجلة الأدبية "فورج" رفقة كل من محمد ديب وكاتب ياسين وجان سيناك.
كتب روبليس قرابة عشرين رواية من أبرزها: "الفعل" (1938)، و"قصر الجنة" (1941 )، و"عمل رجل" (1942)، و"إنه الفجر" التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1955، ومن بين آخر أعماله رواية "الفصل اليافع" (1995)، كما كتب خمس مجموعات قصصية، وأعمالاً مسرحية من بينها: "مرافعة من أجل ثائر" و"ماتت الحقيقة".
يعتبر الكاتب أحد مؤسّسي ما يُعرف بـ "مسرح الشارع"، إضافةً إلى اهتمامه بالترجمة، التي مارسها بين اللغتين الفرنسية والإسبانية حيث نقل جزءاً من أعمال لوركا وثربانتس وغيرهما من الكتّاب الإسبان.
تُعتبر روايته "أعالي المدينة" إحدى أشهر أعماله، إذ نالت في الأربعينيات استحسان النقاد، وحصلت على جائزة "فيمينا" الفرنسية عام 1948، وهي رواية استشرف فيها إرهاصات الثورة الجزائرية، وبداية الانتفاضة الشعبية ضد الواقع الاستعماري.
يقتفي روبليس، في الرواية التي تدور أحداثها في الجزائر نهاية الحرب العالمية الثانية، أثر خطى شاب جزائري بسيط، يُدعى إسماعيل، يُلقى عليه القبض، وهو يقوم بتمزيق إحدى الملصقات الدعائية، فيهينه الضابط ألمارو بصفعه في أثناء استجوابه، مما يجعله يسعى إلى الانتقام لكرامته.
يذكر روبليس أنه كتب هذه الرواية في الجزائر العاصمة بين سنتي 1946 و1947، وقد أهداها لذكرى صديقه الجزائري، أحمد إسماعيلي. في توطئة العمل، يضيء الكاتب على ظروف وملابسات تأليفه هذه الرواية، حيث تظهر لنا بوضوح شخصيته الملتزمة بالقضايا العادلة للشعوب الرازحة تحت نير الاستعمار. لم تُترجم الرواية إلى اللغة العربية، رغم موقفها وقيمة إضاءاتها التاريخية.
يقول روبليس في مقدّمة العمل: "خلال الفترة الذي كتبت فيها، كان قدر هذا النص تقديم شهادة تاريخية، تكشف وجه التذمّر الذي أصاب الشباب الجزائري وقتئذ". أبرز المؤلّف أيضاً وجهاً من أوجه التطلّع الذي وُلد تحت رماد الأحداث، التي غيّرت مجرى التاريخ.
يورد أيضاً شهادته الشخصية عن الثورة الجزائرية، إذ يقول: "في أيار/ مايو 1945، كنت بالقرب من مدينة شتوتغارت الألمانية، عندما بلغتني الأصداء الأولى للانتفاضة الجزائرية في ناحية قسنطينة، شرق الجزائر. لقد اندلع حريق هائل ما كاد ينطفئ في أوروبا، حتى اشتعل أواره في مكان آخر، في بلدي الحقيقي في الضفة الأخرى. حتى وإن لم يكن بالوهج نفسه، فإن لهيبه كان بنفس شدّة الاحمرار الممتلئ تعاسة".
ويضيف: "عند عودتي إلى الجزائر في السنة الموالية، ما لاحظته هناك رسّخ في نفسي اليقين بأن الجمر الغارق قبل سنة في دم آلاف الضحايا ازداد اشتعالاً هذه المرة. بالإمكان قتل إنسان، ولكن لا يمكن قتل الفكرة التي دفعت به إلى اختيار الموت. جميعنا يعرف ذلك. بالنسبة إلى الشباب الجزائري، لم يكن المستقبل يحمل في نفوسهم أية بارقة أمل".
يواصل: "لقد دفعت سياسة النظام الاستعماري إلى الالتصاق بالجدران، بلا أدنى إمكانية لاختراقه، في محاولة التفتّح نحو عالم أكثر عدلاً ومساواة. وهو ما يؤدّي بالتأكيد إلى انتهاج العنف سبيلاً، ولكنها تكتمل بمعرفة دقيقة لتلك القوة التي باحتقارها كل عدالة، من شأنها الحفاظ على هذا الحائط".
لم تكد تمر ست سنوات على صدور "أعالي المدينة"، حتى أخذت الأحداث الجميع إلى الحرب، آلاف الجزائريين كانوا مثل إسماعيل، بطل الرواية، قد قرّروا استرجاع كرامتهم، فانطلقوا من عمق العتمة ماسكين المصابيح بأيديهم.
هنا، عاد روبليس ليكتب "ليصدّقني الجميع، لا أشير إلى شخوص رواياتي على سبيل المجاملة، ما دمت مقتنعاً أن كل كاتب بما أوتي من إلهام، يعرف أنه سيلتقي في مسار حياته - إن آجلا أو عاجلاً - بشخوص تكاد تكون تلك التي خلقها مخياله، سيلتقيها بلحمها ودمها. ولكنني وإن كنت جمعت هنا كلاًّ من اسماعيل ومانسيرا، يعود ذلك أساساً إلى أنهما بالنسبة إليّ خرجا معاً محترقَين من منزل واحد: المنزل الذي يصهر فيه الضمير الإنساني بوتقة مقاومته، لأكبر هزيمة تهدّد وجوده، ونفيه أصلاً".
بعد استقلال الجزائر، بادر روبليس، بالتعاون مع دار النشر الفرنسية "لوسوي"، إلى إنشاء سلسلة أدبية تُعنى بنشر نصوص قادمة من المغرب العربي. حملت السلسلة عنوان "كتابات متوسّطية"، وضمنها نُشرت ثلاثية محمد ديب: "الدار الكبيرة" و"الحريق" و"النول"؛ كما نُشرت ضمنها معظم أعمال صديق طفولة وشباب روبليس؛ مولود فرعون، مثل "نجل الفقير" و"الأرض والدم" و"الدروب الصاعدة"، إضافة إلى يومياته.
رحل إيمانويل روبليس في 22 شباط/ فبراير 1995 عن 81 عاماً. تكفّلت "جامعة بول فاليري" في مدينة مونبلييه (جنوب فرنسا)، بجمع وتحقيق مؤلّفاته وتبويب كل أرشيفه ووضعه تحت تصرّف الباحثين، وهو أرشيف يضمّ إلى جانب مخطوطات أعماله الأدبية مكتبة زاخرة ومراسلات مع كتّاب من فرنسا والجزائر ممن جمعته بهم صداقة متينة؛ مثل مولود فرعون ونبيل فارس وجان عمروش وغيرهم.
ورغم أنه قرّر الاستقرار في فرنسا بعد استقلال الجزائر، إلا أن روبليس ظلّ على علاقة وطيدة بالحياة الثقافية في الجزائر، وكانت السلسلة، التي أشرف عليها، رابطاً قوياً للإبقاء على صداقاته الأدبية مثلما هو الحال مع الكاتب الطاهر جاووت.
برحيل هؤلاء الأصدقاء، بدأ اسم روبليس يُنسى شيئاً فشيئاً في الجزائر، وفي ظلّ عدم انتقال أعماله الأساسية إلى العربية، فإن الأفكار والرؤى التي قدّمها، وفرادة الزاوية التي كان يرى منها العالم، ستبقى معرّضة للتلاشي.
اقرأ أيضاً: جان سيناك: قبو الوهراني وشموسه