في منتصف العقد الماضي، صدرت في مصر مجموعة أعمال فكرية مثل "ما الإنساني؟"، "ما الحياة؟"، "ما الكون؟"، جمع بينها أنها تحت إشراف المفكر الفرنسي إيف ميشو (1944)، وهي منشورات لأعمال "جامعة كل المعارف"؛ المشروع الموسوعي الذي بعثه بداية الألفية.
في ما عدا ذلك، وبعض الدعوات لمحاضرات في تونس والمغرب أو إحالات في بحوث أكاديمية، يبدو ميشو شبه غائب في الثقافة العربية، بل إن مجالات اشتغاله الأبرز؛ الفلسفة السياسية ونظريات الفن لم تصل منها سوى أصداء قليلة.
هذان المشغلان يمكن أن يلتقطهما أي متابع لإصدارات ميشو منذ 1978، حيث يبدو وكأنه يراوح بينهما. في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقرّ ميشو بتباعد الاهتمامين، ويوضّح "الفلسفة السياسية أتت ضمن مساري الأكاديمي والمهني كأستاذ جامعي، أما الفن فقد توجّهت نحوه من خلال علاقات شخصية مع الفنانين ومتابعة المعارض، فبدأت كناقد فنّي ثم سرعان ما غذّيت هذه المتابعات بالفكر الفلسفي".
في مقال له ضمن الكتاب الجماعي "تاريخ جديد للفوتوغرافيا"، كتب ميشو "ليس من طبيعة الأشياء أن للفلسفة كلمةً تقولها حول كل شيء"، غير أن مسار المفكّر الفرنسي يوحي بعكس ذلك حيث "تفلسف" ميشو في أشياء قد تبدو من غير مألوفات مواضيع الفكر، مثل تطرّقه إلى السياحة في عمل "إيبيزا.. بحث في تصنيع المتعة"، أو دراسته للنوايا الطيبة في السياسة في مؤلفاته الأخيرة.
يقول ميشو "ما أعنيه بالفلسفة هو مجموعة أدوات تفكير واختبار وتحليل. من هذا التعريف يمكن التفلسف في كل شيء، دون أن يعني ذلك أن يصبح التفلسف في كل شيء مطلوباً لذاته". يضيف "أعتقد أن أفضل ما يحدّد تحرّكات التفلسف هو الاهتمام الشخصي".
يتماشى هذا الطرح مع مشروع "جامعة كل المعارف" الذي أسّسه ميشو عام 2000، وطمح من خلاله إلى بناء جماعي لموسوعة معرفية جديدة للقرن 21، في استحضار لموسوعة ديدرو في عصر التنوير. يقول ميشو "أتى هذا المشروع من هاجس إيصال الأفكار ضمن الإمكانيات/ العوائق الحديثة. التفكير في إطار عزلة معرفية لا يقدّم الكثير، وهذا هو حال البحوث الأكاديمية. ثمة مشاركة ينبغي أن تتأسس، وفكرة "جامعة كل المعارف" هي جعل هذه المشاركة على أوسع نطاق من خلال الدعوة - والمساعدة - على التفكير".
وصول أعمال "جامعة كل المعارف" على ضخامتها إلى العربية، في مقابل عدم ترجمة كتابات ميشو الأخرى، مفارقة يشعر بها صاحب "الفنان ووكلاؤه" دون أن يقدّم لها تفسيرات، حيث يعتبر أن اهتمامات القارئ أو المترجم العربي محكومة بسياقات عربية يجهلها.
لكنه من جهة ثانية يفتح على مسألة أخرى، وهي إدارة المفكرين المعاصرين لمسيرتهم، حيث يقول بأنه ليس من فئة المؤلفين الذين يتابعون مترجميهم وناشريهم أو يبحثون عن الصحافيين، معتبراً أن المفكّر الذي يحتكّ بهذه الفضاءات كثيراً، تتحوّل معه إدارة المسيرة الفكرية إلى عمل منتظم قائم بذاته على حساب الفكر نفسه، وهو ما يصفه بـ "بزنس حقيقي".
مفارقة أخرى يمكن التقاطها في علاقة ميشو بالعالم العربي، وهي حضور اسمه في نظريات العنف ضمن مناهج جامعية، خصوصاً تنظيراته حول الاستراتيجيات ما بعد الحداثية للعنف. طبعاً يأتي ذلك في غياب تنظيرات أساسية أكثر في مسيرته، على رأسها قراءاته المعاصرة لـ هيوم، وضخ الفكر التجريبي في الممارسة السياسية والتنظير للفن.
يجري اليوم الربط كثيراً بين المنطقة العربية والعنف لدى الباحثين، غير أن ذلك لا نجده عند ميشو. يفسّر قائلاً "حين بدأت في الاشتغال على هذه الإشكالية في سبعينيات القرن الماضي، كان نموذج الدراسة هو النظام الشمولي السوفييتي، ثم وسّعت دائرة بحثي من خلال الاهتمام بدكتاتوريات أميركا اللاتينية، واعتقدت وقتها أنه يمكن القياس على هذين النموذجين لفهم كل عمليات إنتاج العنف انطلاقاً من شكل النظام السياسي، بما فيها البلدان العربية. ولكنني أعتقد اليوم أن صلاحية هذا الطرح انتهت لسبب بسيط هو تحوّلات جغرافيا العنف في العالم خلال القرن الجديد. حرب العراق في 2003 جعلت من المنطقة جاذبة وحاضنة للعنف، وهو ما يدعوني إلى التفكير في الأمر من جديد".
في كتابه الأشهر "العنف" (صدر ضمن سلسلة شعبية "كوساج"، 1986)، كتب ميشو بأن "سؤال العنف لا يطرح إلا في مجتمعات ديمقراطية خالية منه، أما خارجها، فهو موجود ولكنه لا يتجلّى كمشكل".
على مسافة أكثر من ثلاثة عقود على هذا الموقف، يعلّق المفكر الفرنسي قائلاً "ما زلت أعتقد ذلك. لقد وصلت إلى هذه النتيجة من خلال قراءات تاريخية من الرومان إلى العثمانيين، ووجدت أن الدول التي هيمنت ضخّت العنف حتى تحوّل إلى أمر معتاد ولن نجد تفكيراً في العنف حتى مرحلة الحداثة. وفي اعتقادي، أن الأمر لا يتعلّق بالدول فحسب، بل يتمظهر أيضاً ضمن تراتب الفئات الاجتماعية، إذ يحضر العنف في الأحياء الفقيرة من دون أن يبدو خارجاً عن المألوف، وبالتالي لا أحد يفكّر فيه من الداخل".
من أشهر أعمال ميشو أيضاً كتاب "أزمة الفن الحديث" (1997)، وهو عمل انطلق فيه من الفن ليتحدّث عن تعمّم أزمات العالم الحديث. كان سياق ظهور هذا الكتاب مرحلة اتسمت بخطاب فكري متفائل حول انتصار النموذج الديمقراطي وانفتاح الثقافات على بعضها، ما جعل مقولات المفكر الفرنسي تبدو مغرقة في السوداوية وقتها، ولكنه اليوم يرى أن "صعود الشعبوية من داخل التجارب الديمقراطية التي تعتبر نفسها الأعرق دليلٌ على تعمّم الأزمة، وأنها كانت موجودة منذ عقود". يضيف "الأزمة حاضرة في كل شيء، غير أنها في بعض المواضع تكون مخفيّة تحت السجّاد".
يعتبر ميشو أن الأزمات تُهيّئ مناخاً ثورياً أي تجعل الثورات قابلة للوقوع، غير أنه يؤكد من جانب مقابل بأن إشكالية الزمن الراهن في كون هذا المناخ الثوري تصاحبه استحالة إنجاز ثورة بسبب ارتباط الفئات الثورية المحتملة بمصالح الفئات التي يمكن أن تثور عليها، يضرب هنا أمثلة النظام البنكي والإنترنت فهي وسائل هيمنة، ولكن القطع معها يجعل الثورة نفسها غير ممكنة.
بالنسبة لميشو فإن أقصى عمل ثوري متاح هو ما حصل في الانتخابات الفرنسية الأخيرة حين جرى إقصاء طبقة سياسية برمّتها راديكالياً، وهي حال شبيهة بثورة 1789 وإن اختلفت الوسائل.
"ما الذي خلق هذه الموجة من الاهتزازات والأزمات التي تعيشها البشرية؟"، يعتبر ميشو أن "التكنولوجيا هي السبب الرئيسي خصوصاً مع وصولها مرحلة "الذكاء" وتضخّم ذاكرة الحواسيب بحيث أن كل شيء صار قابلاً للخزن الإلكتروني".
التكنولوجيا بالنسبة له تدفع نحو كل هذه الأزمات، وهو يشير هنا أنه لا يضفي على المفردة معنى سلبياً، فـ "الأزمة" تعني لحظة مفتوحة على مجهول، وهو فهم يتخطّى فزّاعات النهايات التي أطلقها مفكّرو الموجة الأولى من العولمة.
ويكيبديا بدل جامعة
"نرجس وتجسيداته" (2014) كتابٌ وضعه إيف ميشو في صيغة مُعجم، يحاول فيه رسم مشهد تحوّلات الإنسان المعاصر، حين يقترح بديلاً لكلمات قد تختفي مستقبلاً، مثل "يوتيوب بدل ثقافة" و"تصميم بدل فن". يمكننا ربط ذلك بتوقّف أنشطة "جامعة كل المعارف" منذ 2013، والتي اعتبرها ميشو مرحلة توقف مرحلية للتفكير في المنافسة التي يفرضها موقع "ويكيبيديا". لو صدرت طبعة ثانية لعلّه سيضيف "ويكيبيديا بدل جامعة".