إيريكا فيشر-ليشته: نحو تناسج ثقافات الفرجة

27 سبتمبر 2017
(من الندوة)
+ الخط -

منذ سبعينيات القرن الماضي، تعمل المنظرة المسرحية الألمانية إيريكا فيشر-ليشته، على طرح رؤى وتصوّرات مغايرة حول علاقة المسرح والمجتمع، والأداء والجمهور، تبلورت في طرحها لمفهومي "تناسخ ثقافات الفرجة"، و"جماليات الأداء".

من خلال هذين المفهومين مهّدت فيشر-ليشته لمداخل مختلفة، في التعامل مع الممارسات المسرحية واقترحت آفاقاً جديدة لرؤية العروض الأدائية، بوصفها خبرة جمالية تتشكل عبر تفاعل المبدعين والمتلقين، ومن خلال تناسج الثقافات المختلفة.

أكثر ما يميز مشروع فيشر-ليشته هو قدرتها على التطوّر والانفتاح على أطروحات جديدة، والانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة الممارسة والفعل، عبر تأسيس مركز دراسات تحت اسم "تناسج ثقافات الفرجة" في "جامعة برلين الحرّة"، والذي ينظّم -بجانب عمله البحثي والأكاديمي- عدداً من العروض والمهرجانات الأدائية من ثقافات متنوعة، تقدّم نموذجاً عملياً لفكرة المنظرة الألمانية.

"مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي" في دورته الرابعة والعشرين، التي انطلقت يوم 19 أيلول/ سبتمبر الجاري وتختتم فعالياتها بعد غدٍ الجمعة، وجّه دعوة لـ إيريكا فيشر-ليشته، وعُقدت ندوة لمناقشة مشروعها ونظريتها، بمشاركة عدد من الباحثين من مصر وألمانيا وبولندا وأميركا، تحت عنوان: "جماليات الأداء وتناسج ثقافات الفرجة.. النظريات والمستقبل".

في بداية الندوة، تحدثت مروة مهدي عبيدو، مديرة "مركز المسرح العربي والتبادل الثقافي" في ألمانيا ومترجمة كتاب "جماليات الأداء .. نظريات في علم الجمال" الصادر في طبعته العربية عن "المركز القومي للترجمة"، عن أهمية أطروحات المنظّرة الألمانية في ظل ما نعيشه من متغيرات وتداعيات للعولمة، ومحاولات لفرض نمط أحادي من الثقافة والفنون.

وأضافت عبيدو: "تضع نظريات فيشر-ليشته الثقافات والجمهور والفنانين على قدم المساواة، عبر الانتقال من التركيز على النص إلى التركيز على العرض، وهو شكل منهجي يمكن من خلاله تحليل العرض المسرحي من الناحية المرئية الحية المجسدة على المسرح وليس باعتباره مجرّد تحويل للنص المكتوب إلى نص شفاهي، وهذا يعني التعامل مع العرض المسرحي كحدث اجتماعي يعتمد على تجربة تفرز جماليتها الخاصة".

من جانبها، شاركت إيريكا فيشر- ليشته في الجلسة عبر فيديو قصير اعتذرت فيه عن عدم استطاعتها القدوم إلى مصر، نظراً لظروف عائلية طارئة، وأشارت إلى أن المسرح لا ينمو في بيئة منغلقة على ذاتها، لذلك فكلما كان المجتمع منفتحاً على ثقافات متنوعة، كلما ازدهر المسرح، مؤكدة على أن مصطلح "الأداء" لا يقتصر فقط على المسرح ولا باقي الفنون التي تداخلت وتفاعلت سوياً ورفعت الكثير من الحواجز التي كانت بينها، ولكنه يمتد أيضاً إلى حقل اللغة، فالكتابة في حد ذاتها نوع من "الأداء" التي تنتج عبر تفاعلات عديدة.

في كلمته، أشار محمد سمير الخطيب، أستاذ الدراما بجامعة عين شمس أن "الخطاب المسرحي لدى الناقدة الألمانية يقسم إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى اهتمت بالمنهج السيميولوجي، والمرحلة الثانية مرحلة الأداء وجمالياته، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة تناسج الثقافات التي أعادت النظر في العلاقة بين عمليات الإنتاج والعمل الفني والتلقي، لذا تعد فيشر-ليشته من اللحظات الاستثنائية في تاريخ النقد المسرحي وينبغي الوقوف أمامها كثيرًا لرصد وفهم التحولات المعرفية التي كشفها خطابها النقدي في تنظيرها للمسرح".

تحاول فيشر-ليشته عبر أطروحتها تجاوز هيمنة المركزية الغربية، بهدف تحرير المسرح من صورته الكلاسكية، والتعامل مع العروض المسرحية ليس بوصفها حدثاً يجسد نصاً مكتوباً، بل باعتباره ممارسة فنية واجتماعية تفرز واقعاً جمالياً متغيراً، مرتبط بتفاعل الجمهور مع العارضين.

ورغم أن نظرية فيشر-ليشته تركز بالأساس على التفاعل والتأثير بين الجمهور والعارضين، إلا أن هذا الجمهور كان غائباً تمامًا عن الندوات، التي عقدت بعيداً عن المسارح، وفي ساعة مبكرة في قاعة مغلقة في "المجلس الأعلى للثقافة" بدار الأوبرا المصرية، واقتصر حضورها على ضيوف المهرجان من النقاد والأكاديميين، وتحوّل النقاش لسجال لفظي، يلقى فيه كل متحدث ما لديه من تأطير نظري دون الالتفات لما يقول للآخرين.

وشهدت نهاية الندوة هجوماً شديداً على فيشر-ليشته ونظرياتها، وظهر واضحاً مدى عمق أزمة الترجمة، حيث تم اتهام المنظرة الألمانية بالاستشراق والتعالي ومحاولة فرض نمط آخر من المركزية الغربية وهو عكس ما كانت تقوله، فضلاً عن العديد من التهم الأخرى البعيدة عما تطرح.

هذه الأزمة المتعلقة بأزمة ترجمة المصطلحات والفهم الخاطئ، نقلت الحوار إلى سجال آخر مرتبط بالثقافة "الفرانكوفونية" التي يمثلها العديد من الباحثين الحاضرين من شمال أفريقيا، والثقافة "الأنكلوسكسونية" من جهة أخرى.

من جانبها، أشارت مروة مهدي عبيدو في تعقيب لها إلى أن مفهوم الأدائية عند فيشر-ليشته، يحيل على عدد من المصطلحات التي صكتها كمحاور أساسية لنظريتها عن جماليات الأداء، حيث لا يمكن فهم الأدائية إلا من خلال فك علاقتها بمفاهيم أخرى مثل مفهوم حلقة التغذية المرتدة، ومفهوم التلقي المنتج وكذلك مفهوم القوة التحويلية للعرض إلى آخره.

وختمت عبيدو حديثها بالقول: "بسبب جدّة هذه المصطلحات وغيرها على المجال النقدي المسرحي العربي، وربما جدّتها في العموم، ظهر أمامي في الترجمة إلى العربية عدد كبير من المعوقات اللغوية، التي ربما أدت إلى التباس في فهم المصطلحات المصكوكة داخل سياق النظرية النقدية لإيريكا فيشر -ليشته".


دارسة الفرجة وإزعاج المسرحيين
تعدّ إيريكا فيشر- ليشته أحد أبرز المشتغلين في حقل "دراسات الفرجة" والذي يمثّل اليوم مفترقاً تتقاطع فيه العديد من التخصّصات المعرفية مثل السيميولوجيا وتاريخ الفن ونظرية الأدب. هذا التشعّب يبدو أحياناً مصدر إزعاج للمسرحيين، وهو ما عبّر عنه الناقد المسرحي الألماني ديرك سبتز حين كتب مقالاً حول فيشر-ليشته قال فيهإأنها تقدّم "جهازاً مفاهيمياً متضخّماً" يعسر على المسرحيين توظيفه.
المساهمون