16 نوفمبر 2024
إيران والبحرين... إرث مديد من التوتر
يأتي التوتر الذي شهدته، أخيراً، العلاقات البحرينية الإيرانية مقترنا بسحب السفير البحريني راشد سعد الدوسري (وليس مجرد استدعائه للتشاور) من طهران، وتبادل طرد دبلوماسيين في سفارتي البلدين لدى البلد الآخر، ليجعل العلاقات بين البلدين في حكم المقطوعة، وليتوّج مساراً من التوتر، شهدته هذه العلاقات في حقبة طويلة تناهز نحو ثمانية عقود. وهو يعود، أساساً، إلى تشكيك إيراني مزمن في سيادة المملكة الصغيرة واستقلالها. وقد ورثت الجمهورية الإسلامية هذا الأمر عن إمبراطورية الشاه المخلوع، وحافظت عليه، من دون أن تجد حرجاً في استئناف النهج الإمبراطوري، وسعت إلى تنمية هذا "الذخر الاستراتيجي" باهتبال كل ظرف متاح لذلك، وكما هو الحال حيال جزر الإمارات الثلاث. وبينما راجعت سياسات الشاه على مختلف الصعد، تمسكت الجمهورية الإسلامية بالإرث التوسعي الذي طبع العهد الإمبراطوري حيال جيرانه. هذا مع الفارق في أن الشاه، على غطرسته وخيلائه، كان يترك مساحة للتفاهم والتهدئة، بينما دأبت الجمهورية الإسلامية على التصعيد مع المنامة، باستثناء فترتين، حَكمَ في الأولى منهما "البراغماتي" هاشمي رفسنجاني، وفي الثانية تولى الحكم الإصلاحي محمد خاتمي، وكلاهما يتعرضان، حالياً، للتهميش والإقصاء، بل للتشويه المعنوي في بلدهما الذي يتقاسم فيه النفوذ الحرس الثوري، المشحون بأيديولوجية مذهبية ونزعة توسعية، مع المرجع آية الله علي خامنئي.
الظرف الجديد الذي عملت طهران على استثماره من أجل بذل مزيد من الضغوط السياسية والإعلامية على مملكة البحرين (يسميها الإعلام الإيراني الرسمي النظام الخليفي)، هو الأجواء المتوترة التي صاحبت حادث التدافع المأساوي في منى، مع تصريحات متكررة للمرجع بشأن البحرين و"شعبها المظلوم"، والأهم اكتشاف مصنع متفجرات يديره أشخاص على صلة بالحرس الثوري الإيراني، وضبط أسلحة إيرانية في البحر متجهة إلى البحرين.
لم تكتف المنامة بسحب سفيرها، بل قدمت شكوى إلى الأمم المتحدة، سلمها وزير الخارجية، خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، إلى الأمين العام، بان كي مون، الجمعة 2 أكتوبر/تشرين الأول الجاري. وصرح الوزير، على هامش تقديم الشكوى "إن إيران اختارت وتمادت في طريق التصعيد، في محاولةٍ منها لبسط سيطرتها على دول الجوار، من خلال استمرار التدخل في الشؤون الداخلية، واستغلال الفئات المتطرفة، وإيواء الهاربين من العدالة، وفتح المعسكرات لتدريب المجموعات الإرهابية، وتهريب الأسلحة والمتفجرات.
وقال الوزير: إن ذلك أدى إلى تعريض المواطنين والمقيمين ورجال الأمن للاستهداف والقتل والغدر والأعمال الإجرامية التي راح ضحيتها، حتى الآن، ستة عشر رجل أمن وثلاثة آلاف من المصابين".
واقع الحال أن طهران استغلت أجواء الربيع العربي في البحرين، لكي تقدم دعماً إعلامياً كثيفاً للمعارضة التي شاركت في موجة الاحتجاجات، وبالذات لجمعية الوفاق. وتقول السلطات في المنامة إن الدعم لا يقتصر على الجانب الإعلامي، وهو ما تنفيه جمعية الوفاق، وغيرها من جمعيات سياسية إسلامية، ذات لون طائفي واحد، غير أن هذه الجمعيات تتخذ المواقف الإيرانية نفسها حيال قضايا المنطقة، بما في ذلك حول البحرين نفسها.
ادعاءات إيران الشاهنشاهية
وفي تقليب صفحات التاريخ من مصادر شتى، يتبين أن إيران أثارت تبعية البحرين لها أول مرة في عام 1927 لدى عصبة الأمم. وحجتها في ذلك أنها "كانت تسيطر على البحرين في معظم عصور التاريخ". ومن دون الإشارة إلى إن كان أحدٌ في العالم يوافق على تلك السيطرة أم لا، وخصوصاً البحرينيين أنفسهم. ومع السيطرة البريطانية على الخليج، ومن ضمنه البحرين، فقد توجهت إيران إلى بريطانيا، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، مطالبة بفرض السيادة الإيرانية على هذا البلد. وفي الفترة نفسها، قبل انصرام عام 1945، دعت إيران الولايات المتحدة إلى الامتناع عن التنقيب في النفط في البحرين. كانت إيران الشاهنشاهية تسعى، آنذاك، إلى منافسة بريطانيا والقوة الأميركية الصاعدة في الطموحات الاستعمارية، وقد نجحت في مساعيها بالاستيلاء على جزر الإمارات عشية إعلان استقلالها، وقبل ذلك، على إقليم الأحواز في عام 1925، فيما احتفظت بالنفوذ السياسي والاستخباراتي في دول أخرى، من دون أن يبلغ الأمر درجة السيطرة، بما في ذلك على البحرين التي كانت تمور بطموح استقلالي. على أن طهران الشاهنشاهية حافظت على ادعاءاتها بتبعية البحرين، وأدرجت ذلك في مناهج التعليم المدرسي، ابتداء من عام 1946، ورفضت التعامل مع جوازات السفر البحرينية، وحتى مع طوابع البريد البحرينية.
وشهد عام 1957 تصعيداً جديداً بإعلان مجلس الوزراء الإيراني قراره ضم البحرين. وهي الفترة نفسها التي شهدت احتجاجات جماهيرية في دول المشرق العربي على مشروع إيزنهاور بملء الفراغ (الاستعماري البريطاني والفرنسي)، بالتعاون مع الشاه. كانت إيران تمنّي النفس بملء "الفراغ" في البحرين، ما إن يستعد الانتداب البريطاني لحمل حقائبه ومغادرة هذه الجزيرة.
في النصف الأول من الستينيات، جرى تقارب إيراني كويتي وسعودي، وزار كل من ملك السعودية فيصل بن عبدالعزيز وأمير الكويت عبدالله السالم الصباح طهران، وجرى التوافق مع الشاه على التعاون وتسوية الحدود البحرية، وأعلن الشاه تخليه عن سياسة احتلال أراضي الغير بالقوة.
وقبل أن ينقضي عقد الستينيات، ثارت عاصفة دبلوماسية في نهايته في 1969، فمع التحضيرات لانتهاء حقبة الانتداب البريطاني، وتهيؤ البلاد لإعلان استقلالها، اعترضت حكومة الشاه، وادعت أن الاستقلال يخالف رغبات البحرينيين!، علماً أنه جرت في عام 1965 انتفاضة شعبية واسعة ضد الانتداب البريطاني، مطالبة بالاستقلال. وجرت مداولات بريطانية إيرانية بحرينية في الأمم المتحدة، انتهت إلى قبول مبدأ تقرير المصير. وتقدمت إيران وبريطانيا بطلب إلى الأمين العام آنذاك، يو ثانت، بإرسال لجنة لتقصي الحقائق، لمعرفة تطلعات البحرينيين، انتهت، بعدما أجرت استفتاء في عام 1970 إلى الإقرار برغبة البحرينيين في الاستقلال. وجاء صدور قرار مجلس الأمن، في 11 مايو/أيار 1970، ليقضي بحق شعب البحرين في الانتماء لدولة مستقلة ذات سيادة، وأفضت هذه التطورات إلى إعلان استقلال البلاد في 15 أغسطس/آب 1971.
سلّم الشاه محمد رضا بهلوي بهذه النتيجة، وطويت صفحات من تاريخ الطموحات التوسعية الإيرانية. وشهدت حقبة السبعينيات مرحلة من الهدوء بين البلدين، حيث استعاض حكم الشاه عن المطامح التوسعية بالنفوذ السياسي والأمني الواسع، إضافة إلى التعاون الاقتصادي، والذي أدى، في حينه، إلى إطلاق لقب شرطي الخليج على إيران الشاه.
بعد الثورة الإيرانية
قوبل انطلاق الثورة الإسلامية في عام 1979 بتأييد واسع في الشارع العربي، ومنه الخليجي. أغلقت طهران السفارة الإسرائيلية لديها، وقطعت العلاقات مع الدولة العبرية، ما رفع أسهمها عالياً لدى الرأي العربي العام. وفي مقابل قطع العلاقات مع تل أبيب، تجددت المطالب الإيرانية بالبحرين، مع استخدام عبارات إسلامية لتسويغ هذا المطلب التوسعي. وبدلاً من مراجعة السياسة التي اتبعها الشاه حيال البحرين، باتجاه تكريس التعاون والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، عمدت طهران الثورية، بعد مضي نحو عام، إلى مراجعةٍ معاكسةٍ، تسحب فيها اعترافها بالاتفاق البريطاني الإيراني بخصوص البحرين الذي أفضى إلى استقلال هذا البلد، بناء على رغبة أبنائه، وإعمالا لحقهم الطبيعي، واعتبرت ما جرى افتئاتاً على إيران! ونسب إلى الإمام الخميني قوله إن البحرين جزء من إيران. وبذلك، اتضحت مبكراً سياسة المقايضة، فمقابل قطع العلاقات مع إسرائيل، على الخليجيين والعرب أن يستجيبوا للمطامع الإيرانية التوسعية، ابتداء من المطلب بالتضحية بسيادة دولة مستقلة، هي البحرين!
على أن عام 1991 شهد انفراجا في العلاقات الثنائية، مع رفع مستوى العلاقات من قائم بالأعمال إلى تبادل السفراء، إثر لقاء عقد في السنغال، على هامش مؤتمر لقمة دول عدم الانحياز، بين الرئيس هاشمي رفسنجاني والأمير الراحل عيسى آل خليفة. وقد شكل ذلك التطور الإيجابي الأبرز في علاقات البلدين. على أن هذه الانفراجة لم تلبث أن تعرضت لانتكاس في بحر التسعينيات، مع ظهور احتجاجات شعبية في البحرين في عام 1994، تنادي بعودة الديمقراطية، وقد سارعت طهران إلى تأييد تلك الاحتجاجات، بأمل توسعها وزعزعة الوضع القائم. وقد تبع ذلك في 1996 إعلان سلطات المنامة الكشف عن "حزب الله البحريني"، وهو حركة معارضة شيعية، وضعت خطة لقلب نظام الحكم، إضافة إلى وجود الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، وهي حركة معارضة، تأسست عام 1976، واتخذت طهران مقراً لها. وقد أدى ذلك إلى سحب البحرين سفيرها من طهران، وعودة العلاقات إلى مستوى القائم بالأعمال.
مع حلول عام 1997، وانتخاب محمد خاتمي رئيساً لجمهورية إيران، شهدت العلاقات انفراجة واسعةً، تم خلالها تبادل الزيارات على مستوى وزاري بين البلدين، وتم تشكيل لجنة سياسية مشتركة، وتحسنت في الأثناء العلاقات الإيرانية السعودية. وزار ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، في 17 أغسطس/آب 2002، طهران، ولقي استقبالا حاراً من الرئيس محمد خاتمي، وجرى تفاهم واسع النطاق حول قضايا إقليمية، وحول أوجه تعاون ثنائي متعددة.
أزمات واستفزازات
ولم تلبث العلاقات أن اتخذت مساراً معاكساً في السنوات اللاحقة، مع تعاظم دور المحافظين والحرس الثوري. ففي عام 2007، نشبت أزمة حادة، حين كتب مدير تحرير صحيفة كيهان الإيرانية شبه الرسمية، حسين شريعتمداري، "إن البحرين جزء من الأراضي الإيرانية، وانفصلت عن إيران نتيجة تسوية غير قانونية بين الشاه والولايات المتحدة وبريطانيا". ورأى الكاتب أن "المطلب الأساسي للشعب البحريني هو إعادة المحافظة التي تم فصلها عن إيران إلى الوطن الأم". وكانت مفاجأة حقاً أن يقف الكاتب، دون سواه، على المطلب الأساسي للبحرينيين! وأن يُقرّ بأنهم شعب، وفي الوقت نفسه، يطالب بإلحاق أرض هذا الشعب بدولة أخرى هي دولة الكاتب.
ولم تتوقف الاستفزازات الإيرانية، إذ أخذ مسؤولون إيرانيون كثيرون يرددون المزاعم إياها، في استغلال مثير وبالغ السلبية لشعبية الثورة الإيرانية لدى الجمهور العربي، علماً أن مسؤولين إيرانيين لا يكتفون بالمطالبة غير المشروعة بدولة البحرين المستقلة، بل بالخليج بأسره، فقد اعتبر رئيس الأركان في القوات المسلحة الإيرانية، حسن أبادي، في عام 2011، أن "اسم الخليج الفارسي وملكيته وعائديته، هي للإيرانيين، حسب الوثائق والمستندات التاريخية والقانونية". وتطاول الاستفزازات والتهديدات دولة الكويت. وقال عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، محمد كريم عابدي، "ما حدث من دخول جيوش من دول الخليج الفارسي (العربي) إلى البحرين لن يتكرر، ولن نسمح بتكرار حدوثه في الكويت".
وبخصوص دولة الإمارات، ففي مايو/أيار 2012، أطلق مساعد القائد العام للقوات المسلحة الإيرانية، العميد مسعود جزائري، تهديدات لدول الخليج تطالب باسترجاع الجزر الإماراتية المحتلة، كما هدد بإحراق الإمارات.
إذ يستند الطعن الإيراني الواقعي بسيادة البحرين واستقلالها إلى سيطرة سابقة على هذا البلد، قبل أن تعرف الدول المستعمَرة الاستقلال وتحدد حدودها، فإن هذا الطعن يتضاعف مع ما تعمل الجمهورية الإسلامية على تكريسه بربط مواطنين ينتمون لدولة مستقلة بها. والمدخل إلى ذلك طائفي، فطهران تعتبر نفسها مرجعية دينية لكل من ينتمي إلى الطائفة الشيعية، فإذا ما استقر هذا الربط الذي لا نظير له إلا في ربط الدولة العبرية كل اليهود بها (وهو ما ينكره عليها كثيرون منهم)، فإنه يتم الانتقال إلى مستوى أعلى من الربط، حيث تصبح طهران، في منظورها وفي طموحها، مرجعية سياسية لهؤلاء، بما يفرض عليهم ازدواجية في الانتماء والارتباط. وهو أمر يُخالف واقع العلاقات بين الدول والشعوب، وحقوق المجتمعات بالاستقلال عن مراكز خارجية.
ويستند الأمر إلى ما هو أبعد، إلى أن الأصول القديمة لبعض البحرينيين تعود لإيران أو إلى "العجم". لكن ذلك لا يغيّر في الواقع شيئاً، فهؤلاء مواطنون بحرينيون، بصرف النظر عن أصولهم البعيدة، ونالوا جنسية البلاد برضاهم، بل بطلب منهم. وبفعل الصيرورة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أصبحوا جزءاً من النسيج الوطني للبلاد، شأن من ينتمي للطائفة الإسلامية الأخرى، أو من تعود أصولهم البعيدة إلى أنحاء مختلفة في الجزيرة العربية.
على إيران، وفقا لمنطقها هذا، أن تقبل تبعية مواطنيها الأكراد إلى كردستان، والبلوش إلى باكستان، والهزارا والطاجيك إلى أوزبكستان، والبشتون إلى أفغانستان، إلى نهاية قائمة "الشعوب الإيرانية"!.
لم تكتف المنامة بسحب سفيرها، بل قدمت شكوى إلى الأمم المتحدة، سلمها وزير الخارجية، خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، إلى الأمين العام، بان كي مون، الجمعة 2 أكتوبر/تشرين الأول الجاري. وصرح الوزير، على هامش تقديم الشكوى "إن إيران اختارت وتمادت في طريق التصعيد، في محاولةٍ منها لبسط سيطرتها على دول الجوار، من خلال استمرار التدخل في الشؤون الداخلية، واستغلال الفئات المتطرفة، وإيواء الهاربين من العدالة، وفتح المعسكرات لتدريب المجموعات الإرهابية، وتهريب الأسلحة والمتفجرات.
وقال الوزير: إن ذلك أدى إلى تعريض المواطنين والمقيمين ورجال الأمن للاستهداف والقتل والغدر والأعمال الإجرامية التي راح ضحيتها، حتى الآن، ستة عشر رجل أمن وثلاثة آلاف من المصابين".
واقع الحال أن طهران استغلت أجواء الربيع العربي في البحرين، لكي تقدم دعماً إعلامياً كثيفاً للمعارضة التي شاركت في موجة الاحتجاجات، وبالذات لجمعية الوفاق. وتقول السلطات في المنامة إن الدعم لا يقتصر على الجانب الإعلامي، وهو ما تنفيه جمعية الوفاق، وغيرها من جمعيات سياسية إسلامية، ذات لون طائفي واحد، غير أن هذه الجمعيات تتخذ المواقف الإيرانية نفسها حيال قضايا المنطقة، بما في ذلك حول البحرين نفسها.
ادعاءات إيران الشاهنشاهية
وفي تقليب صفحات التاريخ من مصادر شتى، يتبين أن إيران أثارت تبعية البحرين لها أول مرة في عام 1927 لدى عصبة الأمم. وحجتها في ذلك أنها "كانت تسيطر على البحرين في معظم عصور التاريخ". ومن دون الإشارة إلى إن كان أحدٌ في العالم يوافق على تلك السيطرة أم لا، وخصوصاً البحرينيين أنفسهم. ومع السيطرة البريطانية على الخليج، ومن ضمنه البحرين، فقد توجهت إيران إلى بريطانيا، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، مطالبة بفرض السيادة الإيرانية على هذا البلد. وفي الفترة نفسها، قبل انصرام عام 1945، دعت إيران الولايات المتحدة إلى الامتناع عن التنقيب في النفط في البحرين. كانت إيران الشاهنشاهية تسعى، آنذاك، إلى منافسة بريطانيا والقوة الأميركية الصاعدة في الطموحات الاستعمارية، وقد نجحت في مساعيها بالاستيلاء على جزر الإمارات عشية إعلان استقلالها، وقبل ذلك، على إقليم الأحواز في عام 1925، فيما احتفظت بالنفوذ السياسي والاستخباراتي في دول أخرى، من دون أن يبلغ الأمر درجة السيطرة، بما في ذلك على البحرين التي كانت تمور بطموح استقلالي. على أن طهران الشاهنشاهية حافظت على ادعاءاتها بتبعية البحرين، وأدرجت ذلك في مناهج التعليم المدرسي، ابتداء من عام 1946، ورفضت التعامل مع جوازات السفر البحرينية، وحتى مع طوابع البريد البحرينية.
وشهد عام 1957 تصعيداً جديداً بإعلان مجلس الوزراء الإيراني قراره ضم البحرين. وهي الفترة نفسها التي شهدت احتجاجات جماهيرية في دول المشرق العربي على مشروع إيزنهاور بملء الفراغ (الاستعماري البريطاني والفرنسي)، بالتعاون مع الشاه. كانت إيران تمنّي النفس بملء "الفراغ" في البحرين، ما إن يستعد الانتداب البريطاني لحمل حقائبه ومغادرة هذه الجزيرة.
في النصف الأول من الستينيات، جرى تقارب إيراني كويتي وسعودي، وزار كل من ملك السعودية فيصل بن عبدالعزيز وأمير الكويت عبدالله السالم الصباح طهران، وجرى التوافق مع الشاه على التعاون وتسوية الحدود البحرية، وأعلن الشاه تخليه عن سياسة احتلال أراضي الغير بالقوة.
وقبل أن ينقضي عقد الستينيات، ثارت عاصفة دبلوماسية في نهايته في 1969، فمع التحضيرات لانتهاء حقبة الانتداب البريطاني، وتهيؤ البلاد لإعلان استقلالها، اعترضت حكومة الشاه، وادعت أن الاستقلال يخالف رغبات البحرينيين!، علماً أنه جرت في عام 1965 انتفاضة شعبية واسعة ضد الانتداب البريطاني، مطالبة بالاستقلال. وجرت مداولات بريطانية إيرانية بحرينية في الأمم المتحدة، انتهت إلى قبول مبدأ تقرير المصير. وتقدمت إيران وبريطانيا بطلب إلى الأمين العام آنذاك، يو ثانت، بإرسال لجنة لتقصي الحقائق، لمعرفة تطلعات البحرينيين، انتهت، بعدما أجرت استفتاء في عام 1970 إلى الإقرار برغبة البحرينيين في الاستقلال. وجاء صدور قرار مجلس الأمن، في 11 مايو/أيار 1970، ليقضي بحق شعب البحرين في الانتماء لدولة مستقلة ذات سيادة، وأفضت هذه التطورات إلى إعلان استقلال البلاد في 15 أغسطس/آب 1971.
سلّم الشاه محمد رضا بهلوي بهذه النتيجة، وطويت صفحات من تاريخ الطموحات التوسعية الإيرانية. وشهدت حقبة السبعينيات مرحلة من الهدوء بين البلدين، حيث استعاض حكم الشاه عن المطامح التوسعية بالنفوذ السياسي والأمني الواسع، إضافة إلى التعاون الاقتصادي، والذي أدى، في حينه، إلى إطلاق لقب شرطي الخليج على إيران الشاه.
بعد الثورة الإيرانية
قوبل انطلاق الثورة الإسلامية في عام 1979 بتأييد واسع في الشارع العربي، ومنه الخليجي. أغلقت طهران السفارة الإسرائيلية لديها، وقطعت العلاقات مع الدولة العبرية، ما رفع أسهمها عالياً لدى الرأي العربي العام. وفي مقابل قطع العلاقات مع تل أبيب، تجددت المطالب الإيرانية بالبحرين، مع استخدام عبارات إسلامية لتسويغ هذا المطلب التوسعي. وبدلاً من مراجعة السياسة التي اتبعها الشاه حيال البحرين، باتجاه تكريس التعاون والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، عمدت طهران الثورية، بعد مضي نحو عام، إلى مراجعةٍ معاكسةٍ، تسحب فيها اعترافها بالاتفاق البريطاني الإيراني بخصوص البحرين الذي أفضى إلى استقلال هذا البلد، بناء على رغبة أبنائه، وإعمالا لحقهم الطبيعي، واعتبرت ما جرى افتئاتاً على إيران! ونسب إلى الإمام الخميني قوله إن البحرين جزء من إيران. وبذلك، اتضحت مبكراً سياسة المقايضة، فمقابل قطع العلاقات مع إسرائيل، على الخليجيين والعرب أن يستجيبوا للمطامع الإيرانية التوسعية، ابتداء من المطلب بالتضحية بسيادة دولة مستقلة، هي البحرين!
على أن عام 1991 شهد انفراجا في العلاقات الثنائية، مع رفع مستوى العلاقات من قائم بالأعمال إلى تبادل السفراء، إثر لقاء عقد في السنغال، على هامش مؤتمر لقمة دول عدم الانحياز، بين الرئيس هاشمي رفسنجاني والأمير الراحل عيسى آل خليفة. وقد شكل ذلك التطور الإيجابي الأبرز في علاقات البلدين. على أن هذه الانفراجة لم تلبث أن تعرضت لانتكاس في بحر التسعينيات، مع ظهور احتجاجات شعبية في البحرين في عام 1994، تنادي بعودة الديمقراطية، وقد سارعت طهران إلى تأييد تلك الاحتجاجات، بأمل توسعها وزعزعة الوضع القائم. وقد تبع ذلك في 1996 إعلان سلطات المنامة الكشف عن "حزب الله البحريني"، وهو حركة معارضة شيعية، وضعت خطة لقلب نظام الحكم، إضافة إلى وجود الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، وهي حركة معارضة، تأسست عام 1976، واتخذت طهران مقراً لها. وقد أدى ذلك إلى سحب البحرين سفيرها من طهران، وعودة العلاقات إلى مستوى القائم بالأعمال.
مع حلول عام 1997، وانتخاب محمد خاتمي رئيساً لجمهورية إيران، شهدت العلاقات انفراجة واسعةً، تم خلالها تبادل الزيارات على مستوى وزاري بين البلدين، وتم تشكيل لجنة سياسية مشتركة، وتحسنت في الأثناء العلاقات الإيرانية السعودية. وزار ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، في 17 أغسطس/آب 2002، طهران، ولقي استقبالا حاراً من الرئيس محمد خاتمي، وجرى تفاهم واسع النطاق حول قضايا إقليمية، وحول أوجه تعاون ثنائي متعددة.
أزمات واستفزازات
ولم تلبث العلاقات أن اتخذت مساراً معاكساً في السنوات اللاحقة، مع تعاظم دور المحافظين والحرس الثوري. ففي عام 2007، نشبت أزمة حادة، حين كتب مدير تحرير صحيفة كيهان الإيرانية شبه الرسمية، حسين شريعتمداري، "إن البحرين جزء من الأراضي الإيرانية، وانفصلت عن إيران نتيجة تسوية غير قانونية بين الشاه والولايات المتحدة وبريطانيا". ورأى الكاتب أن "المطلب الأساسي للشعب البحريني هو إعادة المحافظة التي تم فصلها عن إيران إلى الوطن الأم". وكانت مفاجأة حقاً أن يقف الكاتب، دون سواه، على المطلب الأساسي للبحرينيين! وأن يُقرّ بأنهم شعب، وفي الوقت نفسه، يطالب بإلحاق أرض هذا الشعب بدولة أخرى هي دولة الكاتب.
ولم تتوقف الاستفزازات الإيرانية، إذ أخذ مسؤولون إيرانيون كثيرون يرددون المزاعم إياها، في استغلال مثير وبالغ السلبية لشعبية الثورة الإيرانية لدى الجمهور العربي، علماً أن مسؤولين إيرانيين لا يكتفون بالمطالبة غير المشروعة بدولة البحرين المستقلة، بل بالخليج بأسره، فقد اعتبر رئيس الأركان في القوات المسلحة الإيرانية، حسن أبادي، في عام 2011، أن "اسم الخليج الفارسي وملكيته وعائديته، هي للإيرانيين، حسب الوثائق والمستندات التاريخية والقانونية". وتطاول الاستفزازات والتهديدات دولة الكويت. وقال عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، محمد كريم عابدي، "ما حدث من دخول جيوش من دول الخليج الفارسي (العربي) إلى البحرين لن يتكرر، ولن نسمح بتكرار حدوثه في الكويت".
وبخصوص دولة الإمارات، ففي مايو/أيار 2012، أطلق مساعد القائد العام للقوات المسلحة الإيرانية، العميد مسعود جزائري، تهديدات لدول الخليج تطالب باسترجاع الجزر الإماراتية المحتلة، كما هدد بإحراق الإمارات.
إذ يستند الطعن الإيراني الواقعي بسيادة البحرين واستقلالها إلى سيطرة سابقة على هذا البلد، قبل أن تعرف الدول المستعمَرة الاستقلال وتحدد حدودها، فإن هذا الطعن يتضاعف مع ما تعمل الجمهورية الإسلامية على تكريسه بربط مواطنين ينتمون لدولة مستقلة بها. والمدخل إلى ذلك طائفي، فطهران تعتبر نفسها مرجعية دينية لكل من ينتمي إلى الطائفة الشيعية، فإذا ما استقر هذا الربط الذي لا نظير له إلا في ربط الدولة العبرية كل اليهود بها (وهو ما ينكره عليها كثيرون منهم)، فإنه يتم الانتقال إلى مستوى أعلى من الربط، حيث تصبح طهران، في منظورها وفي طموحها، مرجعية سياسية لهؤلاء، بما يفرض عليهم ازدواجية في الانتماء والارتباط. وهو أمر يُخالف واقع العلاقات بين الدول والشعوب، وحقوق المجتمعات بالاستقلال عن مراكز خارجية.
ويستند الأمر إلى ما هو أبعد، إلى أن الأصول القديمة لبعض البحرينيين تعود لإيران أو إلى "العجم". لكن ذلك لا يغيّر في الواقع شيئاً، فهؤلاء مواطنون بحرينيون، بصرف النظر عن أصولهم البعيدة، ونالوا جنسية البلاد برضاهم، بل بطلب منهم. وبفعل الصيرورة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أصبحوا جزءاً من النسيج الوطني للبلاد، شأن من ينتمي للطائفة الإسلامية الأخرى، أو من تعود أصولهم البعيدة إلى أنحاء مختلفة في الجزيرة العربية.
على إيران، وفقا لمنطقها هذا، أن تقبل تبعية مواطنيها الأكراد إلى كردستان، والبلوش إلى باكستان، والهزارا والطاجيك إلى أوزبكستان، والبشتون إلى أفغانستان، إلى نهاية قائمة "الشعوب الإيرانية"!.