إيران بعد وارسو

16 فبراير 2019
+ الخط -
تغيّرت الأحوال كثيراً في وارسو البولندية. لم تعد البلاد مركزاً لتكتّل شرقي قاده الاتحاد السوفييتي بين عامي 1955 و1991. باتت وارسو معقلاً أميركياً بالذات، تنطلق منه لمهاجمة "خطر شرقي"، إيراني هذه المرة، لا سوفييتي. بين حلف وارسو الأول (1955 ــ 1991)، وحلف وارسو الثاني، حكايات أميركية، بدأت باقتحام متاجر البرغر برلين الشرقية وموسكو، وانتهت بتحوّل بولندا، التي ظلمها التاريخ مع نابوليون بونابرت، ثم مع الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية، إلى فقاعةٍ اقتصادية ليبرالية، تُلهب حسد الدول المجاورة من بيلاروسيا وأوكرانيا وتشيكيا وسلوفاكيا. مركزية وارسو في عالم جديد، يبحث بين إطاحة النظام الإيراني، بحسب قول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كحدّ أقصى، وتعديل سلوكيات النظام حدّا أدنى، يفترض أن تؤدي إلى تحقيق شيءٍ ما.
لا فشل متوقعاً بعد هذه القمة. إن إفراغها من كثير من مضمونها، خصوصاً على مستوى المشاركة الدولية، لا يعني حكماً أنها فشلت، لكنها ستشرّع الأبواب أمام اعتماد "الحدّ الأدنى"، وهو "تعديل سلوكيات النظام الإيراني". في هذه النقطة، قد تكون إيران، في مكانٍ ما، بحاجة أيضاً إلى تعديلٍ طفيف. لا تزال طهران تراهن على مرحلة ما بعد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كي "تعود الأمور إلى مجاريها"، لكن واقع الأمور يشير إلى أن الخَلَف، إن لم يكن ترامب نفسه في ولاية ثانية، سيعتمد الاستراتيجية الترامبية نفسها مع إيران، مع تغيير شكلي في التكتيكات. بالتالي، يبقى أمام إيران تحقيق المعالجة الداخلية، بما يسمح بعدم تدهور الوضع الداخلي. لا يمكن الاعتماد على المشاعر والعواطف والخطابات الرنّانة. هناك مشكلة في طهران، والمشكلة اقتصادية بالدرجة الأولى. يمكن للناس الوقوف إلى جانب نظامهم فترة طويلة، لكنهم في النهاية سيستسلمون لحاجاتهم وغرائزهم، شأنهم شأن السوفييت، وكامل أوروبا الشرقية في السابق. قد تكون الآلية الجديدة المعتمدة مع الأوروبيين فرصةً لمنح النظام الإيراني مزيدا من الهدوء الذي يسبق القيام بخطواتٍ جدّيةٍ في الداخل. وهي الآلية المالية التي تسمح للشركات الأوروبية بمواصلة العمل مع إيران من دون التأثر بالعقوبات الأميركية، وتهدف إلى إنشاء قناة مالية جديدة لحماية حرية الأوروبيين، في السعي إلى إقامة تجارة مشروعة مع إيران، وحفظ المصالح الاقتصادية الإيرانية، في إطار الاتفاق النووي، وتسهيل نقل العائدات المالية من الصادرات النفطية الإيرانية إلى أوروبا، والسماح لإيران بالدفع مقابل مشترياتها التقليدية من الدول الأوروبية.
على إيران إدراك أن تلك الآلية ليست حلاً نهائياً، بل مجرد أوكسيجين موقت، عليه أن يستتبع في التركيز على الداخل. لا يمكن بناء إمبراطورياتٍ قوميةٍ أو دينية أو جغرافية، بالاعتماد على الأساليب السابقة. سيعود التمدّد الإيراني في بلدان الجوار إلى حجمه داخل إيران، كحالة طبيعية في نهاية المطاف. النموّ الديمغرافي في إيران، المعطوف على الظروف السيئة لإيرانيين كثيرين، خصوصاً في جنوب البلاد، ليس سوى نقطةٍ في بحر المشكلات الإيرانية. المشكلة حقيقية، ولا تقتصر على خطوات قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في العراق وسورية. قد يكون العامل الديني رابطاً أساسياً وجوهرياً لإيرانيين كثيرين، لكنه لم يعد متماسكاً كما كان قبلاً. أما الساكنون خارج إيران الذين يرونها كمارد حديديّ، فقد باتوا أقرب إلى الشيوعيين الحالمين الذين لم يصدّقوا حتى اليوم سقوط الاتحاد السوفييتي الذي نخره الفساد والغباء السياسي وفوضى أوروبا الشرقية.
يمكن لإيران وضع أوراقها على الطاولة. في العراق، تتشارك السلطة مع الأميركيين. في سورية تتشاركها مع الروس والأتراك. في لبنان، تسعى بكل ما أوتي لها أن تتفرّد به، مع بدء التغلغل الروسي النفطي، مع شركة "روسنفت". في اليمن، لا تزال الحرب سجالاً، مع تعدّد الأطراف الإقليمية المشاركة فيها. كلها موارد تستنزف الخزينة الإيرانية، خصوصاً بعد زيادة الدعم للحرس الثوري على حساب موازنة الدفاع، وتشرّع الأبواب أمام مستقبل مقلق.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".