إيران الجميلة أو القبيحة في العالم العربي

18 يناير 2016
+ الخط -
على الرغم من محاولة السياسيين والدبلوماسيين الإيرانيين التغطية على "السياسة الطائفية" الخارجية لبلادهم، إلاّ أنّ نتائج هذه السياسة على أرض الواقع لا يمكن التحايل عليها، أو تجميلها، إذ فجّرت المناطق الملتهبة في العالم العربي، وأحيت الأزمة التاريخية- الموروثة؛ السنية- الشيعية، وقسمت ظهر السلم الأهلي في سورية والعراق واليمن والبحرين ولبنان، وغيرها من دولٍ أصبحت فيها العلاقات بين الطوائف متوترة.
من زاوية أخرى؛ أحدثت هذه السياسة عداءً غير مسبوق لإيران في العالم السُنّي، ويكفي مطالعة استطلاعات الرأي العام العربي، لنكتشف حجم التهميش والدمار الذي أصاب صورة إيران، والتحول من النظرة إليها قبل الثورة السورية، وبعدها؛ من دولةٍ كانت تمثّل لدى نسبة كبيرة من السنة حليفاً استراتيجياً ضد إسرائيل، وتتمتع بعلاقات عميقة ومهمة مع الحركات الإسلامية السنية، وهو ما ينطبق على حليف إيران؛ حزب الله، إلى دولة تمثل عدواً وخصماً في رؤية شريحة واسعة من العالم العربي.
ولعلّ الأشد غرابة في هذه التحولات الجذرية في رؤية "العالم السنّي" (بالمعنى الديمغرافي والسياسي، وليس الطائفي) إلى إيران هو موقف الشارع الأردني (لا يتوافر على تنوع طائفي)؛ ففي استطلاع لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، أفادت نسبة 71% بأنّ سياسات إيران تمثّل تهديداً للاستقرار في المنطقة، وتأتي مباشرةً بعد إسرائيل (78%). والمفارقة أنّها (أي إيران) أصبحت تتجاوز الولايات المتحدة (فقط 64 %).
انعكست صورة إيران على الموقف، أيضاً، من حزب الله، فأصبح الموقف منه أحد عناوين التحولات الجذرية التي حدثت في مواقف الشارع الأردني في الأعوام الماضية، إذ وصلت نسبة من تصنّفه بأنّه منظّمة إرهابية إلى 66 %، أي أغلبية مطلقة. ويبرز هذا التحوّل بصورة سافرة عند مقارنة هذه النسبة بـ 3 % فقط كانت تعتبر الحزب إرهابياً قبل قرابة عشرة أعوام (2004)، فيما كان من يعتبرونه منظمة مشروعة حينها يصلون إلى 84%!

وبالضرورة كان تدخل حزب الله في سورية دوراً حاسماً في تهشيم صورته في العالم العربي، وفي التحول الكبير في الموقف منه، ومن زعيمه، حسن نصر الله، الذي صغرت صورته في الأعوام الماضية، في نظر الشريحة الواسعة من قائد للمقاومة ورمز شعبي إلى قائد طائفي ملحق بإيران. وعلى الرغم من أنّ التحول الجذري الكبير في صورة إيران، لدى الرأي العام العربي، حدث، بصورة حادّة، مع الأزمة السورية، إلاّ أنّ التحول المعلن والواضح في سياسة إيران الخارجية حدث، قبل ذلك، مع الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003.
صحيح أنّ "العامل الشيعي" في سياسة إيران لم يكن ملغياً، أو هامشياً، في أيّ وقت، وهو أحد الركائز الجوهرية في هذه السياسة، منذ الثورة الخمينية 1979، إلاّ أنّ مكانة هذا العامل وقيمته وأولويته شهدت قفزة كبيرة في تصميم الإطار المصلحي والأمني الحاكم للسياسة الخارجية الإيرانية منذ احتلال العراق، وهي الملاحظة المهمة التي يسجلها واحد من أهم المنظّرين الاستراتيجيين الإيرانيين، كيهان بارزيجار، مدير مركز البحوث الاستراتيجية المقرب من مراكز الحكم في طهران، إذ يرى أنّ تنصيب الحكومة الشيعية العراقية، الموالية لطهران، بعد 2003، كان نقطة تحول في تقوية مكانة العامل الشيعي في السياسة الخارجية الإيرانية.
يقدم لنا بارزيجان (في مقالته المهمة "العامل الشيعي في سياسة إيران الخارجية"، على موقع مركز الدراسات الذي يعمل فيه، 2008) تصورا استراتيجياً عن التحول في السياسة الخارجية الإيرانية، من محاولات تصدير ولاية الفقيه والثورة الإيرانية، إلى مفهوم جديد يقوم على حماية مصالح إيران وأمنها وتكريس نفوذها عبر "الفصائل الشيعية"، وهو المفهوم الذي تكرّس وتعزز مع مجيء أحمدي نجاد إلى الرئاسة الإيرانية في العام 2005، منهياً مرحلة الإصلاحية الخاتمية (1997-2005). ويلخص لنا ولي نصر (في كتابه صحوة الشيعة) جوهر التحول "بخلاف آية الله الخميني وأجندته القاضية بالتقريب بين المذهبين، السني والشيعي، بلطف واتزان، يريد هؤلاء القياديون المحافظون من الثورة أن تمكّن الشيعة من حيازة السلطة وتوطيد الهوية الشيعية وتمكينها".
ساعد على إجراء هذه الاستدارة في أولويات السياسة الخارجية الإيرانية وجود "رجل دين" مثل آية الله علي السيستاني، بوصفه أهم مرجعية دينية في العراق، لأنّه لا يؤمن بمبدأ ولاية الفقيه، ولا بالدولة الدينية، ما جعل الهم الإيراني هو تقوية الحضور الشيعي، أيّاً كان التوجه الأيديولوجي، بوصفه في المجمل جزءاً من النفوذ الإيراني، بدلاً من محاولات تثوير الشعوب بأسرها.
أحدث التحول في العراق، من دولة ذات طابع سني (في الحكم) معادية لإيران، وتعدّ سبباً حيوياً من أسباب فشل تصدير الثورة وإجهاضها إقليمياً، واستنزافها، إلى دولةٍ تحكم بأغلبية شيعية موالية لطهران، صدمة لدى الساسة الإيرانيين، وأيقظ فيهم الرغبة الدفينة في النفوذ. لكن، هذه المرة عبر "أدوات واقعية"، تتمثّل في الفصائل الشيعية في العالم العربي. لكن، لماذا لم يحدث التحول الجذري في الموقف السني الشعبي من وقتها (احتلال العراق) من إيران، على الرغم من أنّ إيران تواطأت مع احتلال العراق، وساعدت في ترويض الشيعة العراقيين، وتسهيل العملية السياسية بعد الاحتلال، ووضعت جانباً شعاراتها المعروفة ضد أميركا، مقابل التخلص من العدو رقم واحد؛ صدام حسين، والحصول على مكاسب تاريخية؟
الجواب أنّ هنالك روابط استراتيجية كانت بين إيران والحركات الإسلامية التي تدور في فلك حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين، خففت من وطأة الموقف الإيراني حينها، فتلك العلاقات، وهذا بيت القصيد، أثرت على موقف شريحة اجتماعية واسعة في العالم العربي، بقيت تنظر لإيران، على الرغم من احتلال العراق، بوصفها قوة معادية لإسرائيل، ومساندة لما كان يسمى "محور الممانعة"، وهي الحركات نفسها التي مثّلت جسراً مع حزب الله في "التطبيع" بين النظام السوري والرأي العام العربي، وتغليب ذلك على المشاعر الطائفية. أمّا مع احتلال سورية، فإنّ التحالف الاستراتيجي (حماس والجهاد والإخوان مع إيران) انكسر بصورة حادّة، ولم تفلح محاولات الترقيع اللاحقة، وتوّرط حزب الله في الحرب الداخلية السورية، وظهر الوجه "الآخر" له الذي كان يتجاهله الرأي العام العربي، وهو الطائفي الموالي لإيران، وأصبح العامل الشيعي في السياسة الإيرانية أحد أهم أسباب الشروخ الاجتماعية والثقافية التي امتدت آثارها من العراق وسورية ولبنان إلى دولٍ لا توجد فيها تلك الحالة الطائفية، مثل الأردن ومصر ودول أخرى.

على المدى القصير، ينظر الحرس الثوري والزعماء المحافظون إلى أنّ إيران اكتسبت نفوذاً، تعزّز مع الصفقة النووية مع أميركا، والتحالف لاحقاً مع روسيا، وأخيراً الإفراج عن مليارات الدولارات المجمّدة في الأرصدة الإيرانية. لكن، على المدى الاستراتيجي البعيد، يثير الرهان على العامل الشيعي أسئلة حقيقية، فيما إذا كانت إيران بالفعل كسبت أم خسرت، وفيما إذا كانت خدمت الشيعة العرب، أم أضرّت بهم، وجعلتهم وسط محيط من الأزمات والصراعات الدامية، بدلاً من أن تساعد في إدماجهم في تلك المجتمعات، وتدعيم الحق الشعبي العام في الديمقراطية، بدلاً من الوقوف ضد الربيع العربي، من أجل دعم نظام دكتاتوري فاسد متهاوٍ في دمشق، أو دعم دكتاتور صاعد، مثل نوري المالكي.
هل الطريق الذي اختارته إيران كان أفضل لها ولطموحها الإقليمي، أي خسارة الأغلبية السنية من أجل مصالح الأقلية الشيعية، أو افتراض الصراع بين الفئتين، بدلاً من تجسير العلاقات وتخطي الخلافات؟ ألم يكن النفوذ الإيراني، على المدى البعيد، أقوى وأعمق، وأكثر استقراراً لو اختارت طهران تقديم نموذج سياسي ديمقراطي (محافظ) منفتح على الشعوب، ودعم طموحها في الحرية والديمقراطية، ودور الوسيط في الأزمات السورية والعراقية؟
ربما من حسن حظّ الأنظمة السلطوية العربية أن إيران اختارت الطريق الآخر (العامل الشيعي)، فأصبحت عاملاً آخر، بالإضافة للثورة المضادة، في وجه تسونامي الثورات السلمية العربية.


محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.