إيران... استراتيجيةٌ واحدةٌ وتكتيكات مختلفة

18 يوليو 2019
+ الخط -
يستدعي التوتر الحالي بين طهران وواشنطن مساءلة الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، وقدرتِها على المناورة، على الرغم من المتغيرات الكبرى التي طرأت على المشهدين، الإقليمي والدولي، إبان العقود الأربعة الأخيرة. ومنذ 1979، بلورت إيران استراتيجيتها القائمة على مبدأ تصدير الثورة، من خلال إيجاد مناطق نفوذ، ودعم قوى وتنظيمات شيعية مؤيدة لها (لبنان، العراق..)، وتوظيف خطاب إعلامي وسياسي معادٍ للغرب، وذلك كله ضمن سعيها إلى أن تكون قوة إقليمية قادرة على التأثير في معادلات القوة والنفوذ في الشرق الأوسط.
اجتهدت إيران لتوفير عناصر القوة اللازمة لتغذية استراتيجيتها، وجعلها في خدمة تطلعاتها الإقليمية، وفي الوقت نفسه، ظلت واعيةً بحدود هذه الاستراتيجية، فعملت على تنويع تكتيكاتها، ومن ذلك حرصها على ألا تُستدرج إلى خطأ استراتيجي قاتل، على غرار ما فعله غريمها الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، في احتلاله المعلوم دولة الكويت (1991). وعندما احتُل العراق في 2003، وانهارت دولته، وتفكّكت بنيته الأهلية، بقي أداؤها في المشهد العراقي، على الرغم من المساحة الواسعة التي توفرت لها، محكوما برؤية متوازنة تعي الحدود الفاصلة بين إمكاناتها والتعقيدات الجيوسياسية في المنطقة.
من هنا، يبدو صعبا استبعاد الربط بين هذه الاستراتيجية والتعاطي الحالي للنخب الإيرانية مع أزمة الاتفاق النووي، فطهران تدرك جيدا أنه ليس في مقدورها منازلة الولايات المتحدة وإسرائيل في حرب إقليمية كبرى. ولذلك تحاول جاهدةً الانعراج بهذه الأزمة صوب اتجاهاتٍ أخرى، تسمح لها بتجنب هذه الحرب، نظرا لكلفتها الباهظة على الصعيد الداخلي، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على الاتفاق النووي، في صيغته الحالية، والذي يخوّل لها بعض المكاسب الاقتصادية. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو صعبا للغاية، نتيجة عجز الشركاء الأوروبيين عن التعاطي مع العقوبات الأميركية، بما لا يُفضي إلى انهيار هذا الاتفاق، إلا أن طهران لا تفتأ تُنوِّع أورااقها في هذه المواجهة المفتوحة، كان جديدها ما تردد أخيرا بشأن استعدادها للتفاوض حول ملف الصواريخ الباليستية، إذا توقفت الولايات المتحدة عن بيع الأسلحة إلى حلفائها في الخليج.
في السياق نفسه، وبقدر ما تدرك طهران أن أي مواجهةٍ عسكريةٍ مع الولايات المتحدة ليست في مصلحتها، تُدرك كذلك أنه ليس في مصلحة الأخيرة شن حرب عليها، لأن ذلك سيفجر المنطقة، ويخلط الأوراق بشكل يصعب التنبؤ بمآلاته، في ظل الاحتباس الذي تعرفه المنطقة على أكثر من صعيد. كما أن دوائر القرار في واشنطن لا تريد تكرار التجربتين، الأفغانية والعراقية مع إيران، لما لذلك من تداعيات كارثية على الاقتصاد الأميركي.
على ضوء ذلك كله، تحرص النخب الإيرانية على عدم الانجرار خلف استفزازات ترامب وتهديداته. وبالموازاة مع ذلك، تعمل على المزاوجة بين دعم حلفائها وتعزيز مواقعهم السياسية والميدانية في العراق ولبنان واليمن من ناحية، ومحاولة الالتفاف على العقوبات الأميركية لتوفير الموارد المالية التي تسمح لها بالاستمرار في استراتيجيتها، وتأمين السلم الأهلي والاجتماعي الداخلي، من ناحية أخرى.
وتشكّل الورقة النووية هنا أحد عناصر القوة في التفاوض، بشأن رفع هذه العقوبات، أو على الأقل التخفيف من آثارها، خصوصا في قطاع النفط الذي يعد عصب الاقتصاد الإيراني، فإيران تدرك أهمية هذه الورقة بالنسبة لها، وأي تنازل عنها ينبغي أن يكون ضمن حزمة تفاهماتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ تؤمن لها وضعها قوة إقليمية مؤثرة. وفي الوسع القول، إن الضغوط الإيرانية على الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي، من خلال الرفع التدريجي لمنسوب تخصيب اليورانيوم المسموح به، لا تعكس فقط قدرة إيران على المناورة، واستثمار ما يلوح لها من تناقضات داخل بنية النظام الدولي، بل تكشف عجز هذه الدول، باعتبارها قوى مؤثرة في هذا النظام، عن تقديم ضماناتٍ كافية، تقف في وجه العقوبات الأميركية، وتحافظ، بالتالي، على الاتفاق المذكور.
تربك هذه التنويعات الدبلوماسية والسياسية والميدانية في الاستراتيجية الإيرانية خصوم طهران، وتؤثر على خياراتهم، فهذه العقوبات، على أهميتها، لم تستطع أن تفرز امتداداتها في الداخل الإيراني، بحيث تساعد على إحداث ارتجاج سياسي واجتماعي، يدفع النظام إلى التفاوض تحت الضغط، مع ما لذلك من تداعياتٍ على الوضع الداخلي.