إياد الحلاق... وجع أم الشهيد يطارد جنود الاحتلال الإسرائيلي

03 يونيو 2020
جثمان الشهيد "أيدودي" فوق أكفّ محبيه (مصطفى الخروف/ الأناضول)
+ الخط -
لدى الاحتلال دائماً مبرراته لقتل الفلسطينيين، لكنّ المبررات سقطت جميعاً في أكثر الوقائع، كما في جريمة قتل الشاب المقدسي، إياد الحلاق، الذي أعدم بالرصاص، بدم بارد، قرب مدرسته، علماً أنّه من ذوي الاحتياجات الخاصة

في منزل عائلة الشهيد المقدسي إياد الحلاق (32 عاماً) الذي قتل برصاص جنود إسرائيليين صبيحة السبت الماضي، تتوسط والدة الشهيد جمعاً من قريباتها ومن النسوة المقدسيات في حيّ واد الجوز إلى الشمال من البلدة القديمة في القدس، لتعود مراراً وتكراراً لرواية تفاصيل اليوم الأخير من حياة نجلها إياد، بينما تصر على رفع جهاز هاتفه النقال الذي كان يحمله عندما قتل، بينما زعم من قتله من جنود الاحتلال أنّ إياد كان يحمل مسدساً فلاحقوه حتى قتلوه، ثم تسأل النسوة: "هل هذا مسدس؟ وما حاجة من لديه توحد لهذا المسدس، وهو بالكاد يستطيع أن يتصرف بشؤونه الخاصة والقيام باحتياجاته وحده".



تختار والدته اسم الدلع الذي لطالما كانت تنادي به ابنها، فتقول: "قتلوا أيدودي، حرموني منه، مسكين أيدودي، هو لم يفعل شيئاً، فلماذا يقتلونه؟ أيدودي حساس ويخاف، ولا يؤذي أحداً، ابني ملاك". لم تتمالك الوالدة المكلومة نفسها وهي تتحدث إلى "العربي الجديد" عن نجلها، وكيف رجته وتوسلت إليه في ذلك اليوم بألا يذهب إلى مدرسة "البكرية" حيث يتعلم منذ ست سنوات كيفية التصرف في حياته اليومية وكيف يعتمد على نفسه من دون مساعدة، ويتدرب على إعداد الطعام. تقول الوالدة: "لكنّه لم يردّ عليّ، وقال إنّ عليه أن يذهب إلى المدرسة، ولم تمرّ بعدها ساعة حتى جاءت ابنتي لتخبرني أنّ اليهود قتلوا ابني. لا أعرف كيف تدبرت أمري ومضيت سريعة إلى باب الأسباط. في المدرسة قالوا لي إنّ إياد أصيب برجله وأخذه الاحتلال، فرجعت إلى البيت لأجد شرطة الاحتلال فيه تفتش في كلّ غرفة".

تقع مدرسة إياد "البكرية" على مدخل باب العتم (الملك فيصل بن الحسين)، وهو أحد أبواب المسجد الأقصى من ناحيته الشمالية، وتضم عشرات الفتية والفتيات والشبان والشابات الأكبر سناً مثل إياد، ممن لديهم توحد، وقد اعتاد الشهيد أن يسلك يومياً المسار نفسه الذي سلكه يوم استشهاده. وفي المسار هذا ينتشر جنود الاحتلال، لكنّهم يعرفون إياد تماماً ويعلمون إلى أين يمضي، فقد اعتادوا رؤيته يومياً كما يقول والد الشهيد، خيري روحي الحلاق. يضيف: "حتى ملامح وجهه كانت تدلّ عليه، وعلى حالته الصحية". يتابع والد الشهيد لـ"العربي الجديد": "زودنا إياد بهاتف محمول حتى نتمكن من الاطمئنان عليه منذ لحظة خروجه من البيت وصولاً إلى مدرسته، ومنذ لحظة مغادرته المدرسة حتى عودته إلى البيت، كما أنّه يحتفظ دائماً بشهادة مكتوبة تثبت بأنّ لديه توحدا، وكان في إمكان جنود الاحتلال أن يطلعوا عليها، لحظة قتله، بالرغم من مناشدة وصراخ مرشدته الاجتماعية التي كانت قريبة منه، والتي رجت الجنود ألا يقتلوه". يتابع: "لم يستمع الجنود لتوسلات المرشدة، بل وجهوا أسلحتهم باتجاهها قبل أن يطلقوا النار على ولدي، ويطلبوا منها تسليم المسدس الذي كان بحوزة إياد على حدّ زعمهم".



يعبّر الوالد المفجوع عن ألمه وغضبه إزاء إصرار القاتل من جنود الاحتلال على تنفيذ جريمته بعملية إعدام باردة لنجله، بالرغم مما قيل على لسان قائد القاتل بأنّه طالبه بالتوقف عن إطلاق النار، لكنّه لم يلتزم بالتعليمات، بل واصل إطلاق النار، ويقول الوالد: "ما فعلوه للقاتل، هو إخراجه من الخدمة العسكرية مؤقتاً ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وأنا على قناعة بأنّهم لن يعاقبوه ولن يسجنوه... حسبي الله ونعم الوكيل عليهم".

رواية والد الشهيد تؤكدها روايتان غيرها. الأولى رواية المرشدة الاجتماعية للشهيد، وردة محمود، التي كانت في المكان لحظة مطاردة إياد وفراره إلى مكب النفايات هرباً من الجنود، إذ تؤكد أنّه كان في الإمكان عدم قتله خصوصاً أنّ لديه توحداً. وفي حديثها إلى "العربي الجديد"، تقول المرشدة الاجتماعية: "وقفت إلى جانب إياد وطلبت منهم عدم إطلاق النار عليه، وقلت لهم إنّ ما في حوزته هو مجرد كيس وهاتف محمول، وبإمكانهم أن يفتشوه ويتأكدوا من صدق أقوالي كمرشدة اجتماعية، لكنّ الجنود لم يستمعوا لصراخي، ووجهوا أسلحتهم نحوي وطلبوا مني أن أعطيهم المسدس الذي خبّأه إياد معي بحسب زعمهم، لكنّني قلت لهم إنّه ليس هناك أيّ مسدس، وبالرغم من ذلك أطلقوا الرصاص على إياد وسط صراخي عليهم: توقفوا، توقفوا".

أما الرواية الثانية فجاءت على لسان أحد أقارب الشهيد، الذي يقول لـ"العربي الجديد" إنّ إياد "لديه بطء شديد في النمو، مع سمع ضعيف، كما أنّ لديه إعاقة ذهنية، وبالتالي عندما ناداه جنود الاحتلال، أصيب بحالة من الهلع، ما جعله يركض، فأطلق عليه جنود الاحتلال عشر رصاصات، ما أدى إلى استشهاده على الفور".



وكان والد الشهيد وعدد من أفراد عائلته أمضوا يوم الأحد الماضي، أكثر من عشر ساعات قرب معهد الطب الشرعي الإسرائيلي "أبو كبير" في انتظار الانتهاء من تشريح جثمان نجله، إذ أكد التشريح إصابة نجله برصاصتين قاتلتين استقرت إحداهما في بطنه بينما استقرت الثانية في المنطقة العلوية من الجسم. يقول والد الشهيد لـ"العربي الجديد": "انتظرنا ساعات طويلة حتى أبلغونا عند المساء، وبعدما انتهوا من تشريحه بأنّه سيتم تسليمه ليلاً شريطة عدم الصلاة عليه في المسجد الأقصى، ثم استدعوني إلى مقر الاستخبارات في شرطة المسكوبية، وحددوا بأنفسهم تدابير التسليم والدفن بحضور المحاميين محمد محمود وجاد القضماني، فتسلمنا جثمان ابني قرب مقر قيادة شرطة الاحتلال في الشيخ جراح، ومن هناك نقل بسيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني إلى مستشفى المقاصد، وعدنا به إلى المنزل لتودعه أمه، ثم نقلناه إلى مقبرة المجاهدين في شارع صلاح الدين حيث ووري هناك في الثرى".

لم يكن من السهل أيضاً التحدث إلى شقيقة الشهيد، وهي ديانا الحلاق، المتزوجة والأم لثلاثة أطفال، والتي تتذكر تفاصيل من اليوم الذي سبق استشهاد شقيقها، وكان آخر اتصال بينها وبين إياد في ذلك اليوم. تقول لـ"العربي الجديد": "سألني عن حالي، وعن حال أولادي، ومتى سنأتي لزيارته في البيت، حتى حدث ما حدث في اليوم التالي. لم نستطع أن نحمي إياد، فبتنا ليلتنا نبكي ولم ننم". ديانا تشير أيضاً إلى أنّ شقيقها "كان يمضي يومه كاملاً في مدرسته، كمساعد طباخ، فيخرج كلّ صباح من بيت أهلي في واد الجوز حتى يصل إلى مدرسته بالبلدة القديمة في القدس، وكان على اتصال دائم معنا منذ لحظة خروجه حتى عودته ظهراً". وتقول شقيقة الشهيد: "في ذلك اليوم، خرج إياد كعادته كلّ صباح، وقد روى لنا من كانوا في المكان أنّ الجنود نادوه لتفتيشه فارتبك وهرب ليختبئ في غرفة لحاويات القمامة في باب الأسباط بعدما أطلقوا النار على رجليه، وصودف وقوع الحادث مع وصول مرشدته وردة، فسارعت إلى إبلاغ الجنود باللغة العبرية بأنّه ناخيه، أي إنّه من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، في حين كان هو يردد: أنا معها، معها، معها.... مع ذلك، طخّوه (أطلقوا الرصاص عليه) وهجموا على مرشدته طالبين منها إخراج السلاح الذي زعموا أنّ إياد أخفاه معها، قبل أن تصاب هي الأخرى بحالة انهيار عصبي نقلت على إثرها إلى المستشفى".



إياد الشهيد هو الذكر الوحيد لوالديه من بين شقيقتين أكبرهما ديانا التي تصفه بأنّه شاب وديع مسالم، وتقول: "هو كلّ حياتنا، ولم يعطوه فرصة ليدافع عن نفسه ليقول لهم إنّه من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وإنّه لا يحمل أيّ سلاح... لقد قتلوه وأخذوا بقتله كلّ حياتنا... إياد كان حياتنا كلّها، وقد مات مظلوماً".



على الصعيد العام، فجرت جريمة قتل الشهيد إياد الحلاق حالة من الحزن والغضب لدى المقدسيين، خصوصاً لدى إدارة مدرسته التي أعلنت الحداد ثلاثة أيام عن روحه، وأغلقت أبوابها. وفي دوره، يصف حاتم عبد القادر، القيادي في حركة فتح في حديث إلى "العربي الجديد" قتل الحلاق بأنّه جريمة بشعة وإعدام بدم بارد اقترفه جنود الاحتلال عن سابق إصرار، وأنّه كان بإمكانهم اعتقاله لو أرادوا ذلك. أما رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، الشيخ عكرمة صبري، فيعلق في حديث مختصر إلى "العربي الجديد" أنّ "الشهيد لم يفعل شيئاً حتى يُقتل بهذه الطريقة، ولا بدّ من ملاحقة القاتل وإنزال أشد العقوبات به".