"أكثر الأمور مأساوية التي صادفتها في خلال ثلاثة عقود من ممارستي الطبّ النفسي، هو المريض الذي يشكو من الإهمال". هذا ما يقرّ به الطبيب الأميركي روبرت وايس، المتخصص في اضطرابات الإدمان بمختلف أنواعه وكذلك بالعلاقات الحميمة، في مقال نشرته دورية "سايكولوجي توداي"، مضيفاً أنّ أحد المرضى قال له مرّة: "أتمنّى أن أتعرّض للأذيّة علناً... أتعرّض للضرب والاعتداء الجنسي أو التخلي عنّي... أيّ شيء". ويشرح وايس أنّ "الاعتداء الجسدي وكذلك الجنسي العلنيين أسهل بكثير من الإهمال الذي هو غياب أيّ فعل. كيف يمكنك التفكير في شيء لم يحدث قط؟".
ويوضح وايس في مقاله أنّه "بالنسبة إلى هؤلاء المرضى، في حال لم يحدث لهم شيء مسيء علناً، فهذا يعني أنّهم لم يتعرّضوا لإساءة وبالتالي لا يتوجّب عليهم الردّ كما لو حصل ذلك". ويتابع وايس أنّه "يصعب على هؤلاء المرضى أن يفهموا أنّ الإهمال شكل من أشكال سوء المعاملة. وعلى الرغم من أنّه شكل صامت وأقل وضوحاً، فإنّه يضرّ بقدر أشكال الإيذاء العلنية على المدى القصير وكذلك على المدى الطويل".
ويشير وايس إلى أنّ "أشكال الإهمال الأكثر شيوعاً هي قلة الغذاء وتوفير المأوى والملبس، وهي تبدو أكثر وضوحاً من أنواع الإهمال الأخرى. أمّا الإهمال العاطفي الذي يحدث عندما يكون الوالدان على سبيل المثال حاضرين جسدياً لكنّهما غائبان عاطفياً، فهو يؤثّر سلباً على احترام الطفل لذاته. وكلّما كان الطفل أصغر سناً، يأتي الضرر أكبر. كذلك من السهل جداً أن يدرك الطفل أنّه غير مهم، أو على أقلّ تقدير ليس بأهمية الأشياء الأخرى ذاتها في حياة والديه، نتيجة عدم إيلائه الأولوية. وهذا يضرّ بصورة لا تصدّق بنفسيته".
ويتحدّث وايس كذلك عن "عدم الإنصات إلى الطفل، وهو إهمال من نوع آخر. عندما لا يُسمح للأطفال بطرح أسئلة أو إبداء الرأي، فإنّ نموهم الفكري والنفسي والاجتماعي يكون قد أُهمِل". ثمّ يتناول وايس "التحكم المفرط الذي يبدو مخالفاً للإهمال، غير أنّه ليس كذلك. فالطفل الذين يسيطر عليه والداه أو أحدهما بطريقة مفرطة، يحصل على اهتمام كبير لكنّه لا يتعلم كيفية التفكير والشعور والتصرّف وحده".
في السياق، تقرّ كارلا (44 عاماً)، لـ"العربي الجديد"، بأنّ "ثمّة إحساساً يلازمني بأنّني لست أولوية ومهملة حتى اليوم، حتى بعدما صرت أمّاً". وتخبر أنّ "أختي، منذ طفولتنا، نالت القسط الأكبر من الاهتمام، وأنا من جهتي، كنت أشعر دائماً بأنّني غير مرئية أو مجرّد تابعة. في تلك السنّ الصغيرة، عجزت عن فهم سبب انطوائي على ذاتي وابتعادي عن والدَي". تضيف كارلا: "كانت ثمّة مواقف في حياتي أردت فيها لفت الانتباه بأيّ وسيلة، أردت الصراخ بأعلى صوتي والقول إنّني هنا... إنّني موجودة، حتى لو كان ذلك من خلال التمرّد على أبي وأمي أو اختلاق المشكلات مع زوجي في وقت لاحق. إهمالي كطفلة جعلني أخوض تجارب مؤلمة بحثاً عن ذاتي، وقد دمّرني حتى لجأت إلى الكحول أحياناً وكذلك إلى أدوية مضادة للاكتئاب". وتكمل كارلا أنّ "كل ذلك لم يجدِ نفعاً، فثمّة ألم في أعماقي أعجز عن الشفاء منه. وما زلت أخجل من مواجهة أهلي اليوم والتعبير عن سنوات الإهمال التي عانيتها، لأنّهما يعتقدان أنّهما بذلا قصارى جهدهما لتوفير الأفضل لنا ولا يمكن أن يعترفا أو يدركا أنّ تربيتهما تخلّلها تمييز كبير بين الإخوة".