إنقاذ الوطن من "الدولة"

04 مارس 2014
+ الخط -

لعلَّ من أطرف وأذكى ما انتشر في الفضاء الافتراضي العربي في السنوات الأخيرة؛ تحويرات ذكية ولافتة على مقطع من رواية غسان كنفاني "عائد إِلى حيفا"، وفيه يسأل سعيد زوجته صفية ويجيبها: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله"، واحتفظ مواطنو العالم الافتراضي العرب بالسؤال، وبدأوا باقتراح إجاباتٍ، هي، في جزء كبير منها، بحث، بطريقة أو بأخرى، عن إِجابة للسؤال الكبير: ما هو الوطن؟

يبدو السؤال شعورياً أو شعرياً مطلقاً، ولكن اللافت أن الوطن ابتلعته الدولة، كما يبدو، فالأوطان هي الدول في عصرنا، عصر الدولة ذات الحدود، كأن الوطن انحشر داخل حدود، أو تمدَّد وتمطّى، حتى لامسها وانطبق عليها. والحدود تلك تبدو حقيقة زماننا المطلقة، نُكره على التغني بما يقع داخلها والدفاع عنه، ونرى ما ومن يقع على الجهة المقابلة، ولو كان على مرمى حجر؛ آخر.

كأن "الوطن" لا يشي بآخرين، يترصدوننا في مكان ما، كأنه أرحب من أن يفرض علينا الغناء له، والوقوف لنشيده، كأنه لا يخضع لعلاقةٍ تبادليةٍ نفعية؛ نعطيه ليعطينا، وندفع ثمن كل ما يقدمه لنا، كأنه يظل عصياً على التحديد والحسم، وتتسم علاقتنا حياله بـ"حرية" ما. حتى أعداؤه مجردون، غير محددين، كأنهم معتدون دوماً، وعلى باطل.

أما "الدولة" فتلك تحدد الآخرين بالتفصيل، فهم خلف الحدود تماماً، ولأنهم آخرون مختلفون، نحتاج لحدود تفصلنا عنهم. والدولة تعطي بقدر ما تأخذ، وفي الغالب تأخذ أكثر. وأعداء الدولة محددون مجسّدون من دون أي خطأ، ولا بد من مباغتتهم، قبل أن يفكروا في الاعتداء. لا نعيش إِلا في كنفها، وحين نخطو خارجها، فمنفيون أو مهاجرون أو لاجئون أو سائحون حتى حين، نرحل عنها بأمرها، ونعود إليها بأمرها، نحن داخلها شيء، وخارجها شيء آخر تماما.

لا وجود للدولة، كما نعرفها أو كما وجدناها من دون حدودها، بل إن أفضل نقطة لرؤية الدولة هي حدودها، وهذه الحدود تحديداً هي الإكراه الأكبر في عالم اليوم، وعندها يحسم خيار مصيري؛ فإما الشعور بالعجز المطبق حيالها، والسعي الدؤوب للخروج من إكراهاتها، حتى لو أصبحنا لاجئين منفيين، ولو اضطررنا لتسليم أنفسنا لتجار الهجرة والتهريب، أَو التعامل مع ما يقع داخلها، وشروطه كموضوع لنضال مستمر، يرمي في خلاصته لجعل ما يقع داخل الحدود وطنا أكثر منه دولة، وطنا بحدٍّ أَدنى من الإكراه.

كانت أنظمة ما قبل الربيع العربي أفضل من أدرك حقيقة الالتباس العربي في فهم "الدولة" و"الوطن" وتحديدهما، فاجتهدت في جعل الوطن هو الدولة، ومن دون تحديد واضح للدولة في أذهان العامة، حشرتها في النظام. باتت مفردة الدولة لزجة مائعة، لكنها، في النهاية، تشير إلى النظام القائم ورموزه وتدلل عليه، والوطن لا يُرى، ولا يوجد، ولا يُحدد، إلا من خلال النظام القائم. الخلاصة أن الأنظمة تلك تولت الخلط بين الدولة والوطن والنظام وتعهدته، فخسرنا الوطن والدولة لصالح النظام.

بالعودة إلى الاقتباس الشهير "ما هو الوطن يا صفية"، ونزعه من خصوصية سياقه؛ لا يمكن لسعيد أن يتمنى اليوم عودة إِلى ماضٍ لم يكن فيه "ذلك كله" ولم يحدث. ولكن، يمكن لسعيد ولغيره جعل "ذلك كله" أقرب ما يمكن إلى الوطن، ربما عبر إنقاذه من "الدولة/ النظام"؛ القائمة على مواطنيها، أكثر منها قائمة لهم.