إلى داعش... الإنترنت أم الجدران العازلة؟

29 مارس 2015

يجد الكل جواباً شافياً بلوم الإعلام الحديث (Getty)

+ الخط -

كلما أعلن عن انضمام أعداد جديدة من المراهقين البريطانيين إلى صفوف داعش، خرجت علينا عائلاتهم لتستنكر، تنفي، تستغرب، تشجب...تنفي مسؤوليتها عن خروج الأولاد عن طاعتها إلى طاعة متطرفي داعش. وآخر هذه الحالات قضية الأطباء التسعة البريطانيين السودانيين الذين اختاروا "الهجرة" إلى سورية للعمل في مستشفيات داعش، وهي قضية حيرت أجهزة الأمن والرأي العام البريطانيين. هل يصنف هؤلاء إرهابيين، باعتبار أن العمل تحت إمرة المجموعة المتطرفة يفترض، بالضرورة، حمل السلاح، أم إن دورهم الإنساني يجعلهم في منأى عن أي ملاحقات ممكنة بتهمة الإرهاب؟ نقلت صحيفة الغارديان البريطانية عن مصدر حكومي قوله إن "القرار صعب، ويتوقف على طبيعة النشاطات التي سيقومون بها، وإذا ما كانت هذه النشاطات ذات طابع إرهابي". وأشارت الصحيفة إلى وجود رغبة لدى الأوساط الحكومية المعنية للتمييز بين "هجرة" النساء إلى جمهورية داعش للزواج من "مجاهدين"، وتوجه الرجال البريطانيين إلى المنطقة رغبة للقتال في صفوف داعش.

يطبق التساهل نفسه على حالة المراهقات الثلاث اللواتي اخترن السفر إلى سورية للانضمام إلى صفوف داعش زوجات، من دون أن تتمكن القوى الأمنية البريطانية والتركية من منع هجرتهن. من المرجح ألا تواجه الفتيات أي ملاحقة قضائية، لغياب الدليل على تورطهن في نشاطات إرهابية. وتقدر معلومات الصحف عدد الفتيات البريطانيات اللواتي انضممن لدولة داعش بثمانية على الأقل منذ الصيف الفائت، في حين يتوقع أن تكون الأعداد أعلى بكثير، بسبب تكتم الشرطة والعائلات.

لا تظهر السير الشخصية لهؤلاء الشبان والشابات أنهم أقبلوا على التدين فجأة، أو تلقنوا أصول التشدد الديني من الإنترنت، كما تروج حملات مواجهة التطرف الحكومية. بل تظهر هذه السير أن عملية التلقن تمت تدريجاً في البيت أو المدرسة أو عن طريق شلل الرفاق. على سبيل المثال، تحولت جميلة هنري، إحدى "المهاجرات" إلى دولة داعش التي تم توقيفها في أحد المطارات البريطانية، وهي تحاول العودة إلى البلاد، تحولت إلى الإسلام عن عمر 14 عاماً، باعتبار ذلك كان "الاتجاه الرائج" في المدرسة، آنذاك، كما قالت شقيقتها التوأم التي اعتبرت أن جميلة قررت الرحيل، "لأنه لم يعد بإمكانها تحمل البقاء، هنا، لكونها مختلفة جداً" عن فتيات بيئتها وجيلها، بحسب تقرير لصحيفة المترو الشعبية المجانية. وقد تم إلقاء القبض على جميلة، لدى عودتها من سورية، حيث تعيش مع زوجها وابنها، لاستخدامها هوية شقيقتها لدخول البلاد، وليس على أساس تهمة الإرهاب.

كانت ردة الفعل الأولى لعائلات هؤلاء الشبان إنكار فعلة الأبناء العاقين، التبرؤ منهم واتهام الشرطة والأجهزة الأمنية بالتقصير في كشف مساعيهم. في حالة "الخاطبة الجهادية" الشابة أقصى محمود التي تعتبر الأكثر نشاطاً في اجتذاب الفتيات للالتحاق بصفوف داعش، أعلنت العائلة أن ابنتها "ألحقت بها العار"، وأنها "تشعر بالغضب والرعب" لدور ابنتها في تجنيد مراهقات. واتهمت عائلات المراهقات الثلاث الشرطة بالتقصير، في حين قررت عائلات الأطباء الشبان الذين توجهوا إلى سورية، بحجة المساعدة الإنسانية، السفر إلى تركيا، معتبرة أن مساعي الشرطة البريطانية غير مجدية. وقد بررت خيار إرسال هؤلاء الشبان للدراسة في السودان بالرغبة في إبقائهم على تواصل مع ثقافتهم وجذورهم الإسلامية.

إذن، عائلات المهاجرين والمهاجرات إلى دولة داعش ضحايا شذوذ الأولاد عن المسار الذي كان من المفترض أن يسلكوه، من دون أن يحيدوا عنه خطوة. لا تتحمل العائلات أي مسؤولية عن انحراف أولادها، وكأن غربة هؤلاء التدريجية عن بيئتهم كان يفترض أن تؤدي، ببساطة، إلى النتيجة التي كان يتوقعها الأهل: تعايش سطحي بين هذه البيئة والأولاد الذين تربوا في مدارس دينية، تخضع لسيطرة "المجموعة الثقافية" التي ينتمون إليها، وعقدوا صداقاتهم فيها، وقد تكون فرص حصولهم على عمل خارج إطار هذه المجموعة شبه معدومة. في المجتمع البريطاني، حيث تتعايش ما تسمى "المجموعات الثقافية" جنباً إلى جنب، من دون أن تتمازج فعليا، كان على الأولاد أن يكتفوا، كما فعل آباؤهم، بالاندماج السطحي بحده الأدنى مع المجتمع الأم. لم يخطر في البال أن عزلة الأولاد التي غالبا ما تتجذر في المدرسة، بحجة الحفاظ على الجذور الثقافية، خوفا من "غزو العادات الغربية"، قد تولد نتائج غير مرجوة، وأن يختار الأولاد القطيعة التامة مع بيئتهم، بل أن يعلنوا الحرب عليها في أبشع أشكالها.

دعت أقصى محمود الشبان المسلمين إلى الهجرة، أو شن هجمات على الأراضي البريطانية لمن لا ينجح بالهجرة. وظهرت في إحدى الصور التي نشرتها في وسائط الإعلام الحديث وهي تحمل رأس مقاتل سوري. كيف تحولت أقصى إلى كل هذا الجنون؟ يسأل الأهل والأجهزة الأمنية، ويجد الكل جواباً شافياً ومريحاً في إلقاء اللوم على الإعلام الحديث، القادر على تحويل الشبان، بين ليلة وضحاها، من الحياة المدنية العادية إلى الإرهاب. ولعل الإجابة عن السؤال تفترض تفادي هكذا تبسيط إلى البحث في ما يرغب الجميع في تجنب الخوض به، بحجة الخوف من التمييز ضد المجموعات الثقافية: ماذا يجري داخل الجدران العازلة للعائلة والمدرسة، وغيرهما من بيئات "المجموعة الثقافية" التي لم يتح لهؤلاء الشبان خيار الخروج عن الانتماء إليها، وهو انتماء يمارسونه، بلكنة إنكليزية، ذات نكهة "ثقافية" خاصة.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.