أمس خطر لي أن أسأل: كيف يموت الأطفال تحت القصف؟ مع رغبة عارمة بأن يكون الجواب "تكف قلوبهم عن الخفقان لحظة إقلاع الطائرة المحملة بالقنابل نحوهم"، أو "تنطفئ الدارة الكهربائية في أدمغتهم مع إشعال فتيل البرميل الذي سيهوي ويسحقهم"، غير أني تراجعت عن سؤالي خشية أن يأخذ مختص ما الأمر بجدية فيخبرني، بأن شدة الانفجار تحيل أعضاءهم الداخلية طحيناً، أو أن غبار منازلهم يحشو رئاتهم فيموتون اختناقاً، خشيت، على الرغم من إيقاني، بأن يؤكد لي مختص ما بأنهم يعانون طويلاً ويتبولون على أنفسهم ذعراً، قبل أن يسلموا الروح.
التساؤل نفسه سبقني إليه صناع مسلسل "كونتاك" في حلقته الـ23، إذ تشير الممثلة السورية أمل عرفة في أحد مشاهدها لمن يؤدي دور متطوع في الخوذ البيضاء، إلى ضرورة وجود دم على أجساد الأطفال الذين يمثلون الضحايا، مستنكرة "أن يهبط بناء كامل عليهم، من دون أن يترك دماء على أجسادهم"، وختمت طلبها بجملة تتهم فيها أصحاب الخوذ البيضاء بالاحتيال، قبل أن تنخرط بزعيق ساخر يقلد الأمهات السوريات الثكالى، اللواتي قصّت الحرب قلوبهن، ثم يكمل بقية زملائها مشهدهم الساخر من ضحايا الكيماوي، مثيرين في النفس عاصفة من التقزز والحزن.
ربما كان أحد أهم الأسباب التي ساهمت بمأساتنا السورية، ضياع البوصلة الأخلاقية، قبل الحرب بسنوات عدة، فبالكاد كنا نلمح الفروق في السلوك بين كثير من السوريين، على الرغم من اختلاف ظروفهم التي نشأوا فيها، أو المكانة التي آلوا إليها، فما يصدر من سلوك تتوقعه من شخص متعلم، قد لا يختلف مطلقاً عما يصدر من شخص أمّيّ، وعلى المقياس نفسه يأتي السياسي والطبيب والقاضي والحقوقي والصحافي والفنان، وغيرهم من شريحة المجتمع "النخبة" التي يقع على كاهلها كما يُفترض، تطور المجتمعات وازدهارها.
في سورية قبل الحرب، كان من الشائع أن يزهق الطبيب الأرواح، ويخرق الشرطي القانون، ويخل القاضي ميزان العدالة، ويمارس الحقوقي العنف ضد النساء والأطفال والضعفاء، ويستميت الصحافي لتكميم الأفواه، ويحج العلماء إلى أضرحة الأولياء الصالحين، وتجلد ملائكة الرحمة المرضى، ويتحول أساتذة الجامعة إلى سماسرة، غير أن أسوأهم كان انخراط الفنانين في دوامة الانحطاط تلك.
قد يُعزا انحطاط المجتمع ذاك إلى سوء قيادته السياسية، المسؤولة الأولى والأخيرة عن صناعة وإنتاج المواطن المنحط، في مختلف مؤسساتها التي تتحكم بها وتحكم إرادته، غير أن الفنانين في كل العالم، لهم شأن مختلف، فالفنان بطبيعته البشرية ينزع إلى الحرية والتمرد وقيم الجمال والعاطفة والضمير، ويعزز من طبيعته تلك أنه يقضي جلّ حياته في مدارات الإبداع، خلال دراسته الأكاديمية ومن ثم عمله.
لكن يبدو أن عرفة وزملاءها لم يستفيدوا من الطبيعة البشرية للفنان، ولا من العلوم التي درسوها في المعهد العالي طوال سنوات، وأولها مادة إعداد الممثل لستانيسلافسكي، مؤسس المسرح الحديث، ومبتكر أسلوب الأداء الصادق، الذي يعلّم الممثل كيف يدرس بتمعن الحياة الداخلية للشخوص التي ينوي تأديتها، وكيف يعجن الخيال بالعاطفة بالعقل في الذاكرة الانفعالية، التي لو استخدمتها الممثلة والأم أمل، لاستحضرت الألم الحقيقي لأمهات مثلها، يشهدن موتاً مفجعاً بأطفالهن الذين يشبهون أطفالها، لو أن أمل وزملاءها استفادوا ولو لذرة مما تعلموه، لخجلوا وما قبلوا تأدية ذلك المشهد.
قبل الحرب كان الفنان السوري أكثر من غيره، محصناً ضد العسف الذي قد يطاوله من النظام، فالأخير كان يحسب ألف حساب قبل التعرض له، و كان بمقدور الفنان السوري أن يغير من واقع مواطنيه، فأهميته تتجاوز السياسي بقدرته في أن يسكن وجدان المواطنين، غير أن معظم الفنانين وأمل من بينهم، آثروا عدم الانخراط بالشأن العام، وبعد الثورة، التزموا حضن الانحطاط الآمن، ليس خشية من ضريبة باهظة سيدفعونها وحسب، ولا خوفاً على مصالحهم، إنما ازدراء لبسطاء السوريين، الذين خطفوا منهم أدوار البطولة والشهرة والمجد، بعد تفرد دام لهم سنوات.
لم يكن المشهد المنحط في مسلسل "كونتاك"، سوء تقدير من صناعه، ولا خطيئة مونتاج كما ادعت أمل في اعتذارها الجبان الذي سارعت إلى تقديمه، متملصة من المسؤولية وملقية اللوم على الحلقة الأضعف في العملية الدرامية "شباب المونتاج"، بل كانت تشكيكاً واضحاً بصحة ما يبذله متطوعو "الخوذ البيضاء" وهو ما عادت لتأكيده في رسالة الاعتذار عبر قولها إن الحلقة كانت تستهدف "المتلاعبين بتزييف الحقائق"، في رسالة تصب في ماكينة بروباغندا إعلام النظام السوري، الهادف بالدرجة الأولى، إلى تشويه سمعة "الخوذ البيضاء"، فأي ندّ لنظام القتل البهيمي أثقل من فصيل مدني ينقذ الأرواح؟!
في كل الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية ينحط القسم الأكبر من المجتمع، كذلك، في كل الحروب التي شهدتها البشرية، ولا ينجو من هذا الانحطاط إلا قلة قليلة، وفي الحرب السورية، نجا أصحاب "الخوذ البيضاء"، خارقين كل النظريات الحتمية. فعلى الرغم من أن غالبيتهم من الفئة التي لم تكمل تعليمها، ولم تشغلها الثقافة والفنون وعلوم الجمال وشرعة حقوق الإنسان، نجارون وبلاطون ومزارعون وحدادون وباعة، يمضون حياتهم في ظروف تفتقر لأدنى مقومات الحياة، تحت القصف والحصار، إلا أنهم حافظوا على إنسانيتهم من دون إيديولوجيا تسوقهم، أو أنظمة تستخدمهم، لا يفرقون بين الضحايا في نشاطهم وفي تصريحاتهم، معبرين عن قيم تحترم المبادئ الأساسية للإنسان وكرامته، يتحلون بالشجاعة والحياد والتضحية بالنفس، أسلحتهم أدوات الحفر والتسلق، سيارات الإسعاف، وحقائب الطوارئ الطبية، يتقاضون مبالغ بسيطة مقابل تعريض حياتهم لخطر تفوق نسبته المئة بالمئة، تمكنوا منذ انطلاقهم وحتى هذه اللحظة، من إنقاذ أكثر من مئة وخمسين ألف سوري منحوهم فرصة ثانية في الحياة.
فيا عرفة، إن كان من أي أمل لسورية الغابة، سورية المنكوبة، فهم "الخوذ البيضاء".