ككل عام، يكون شهر حزيران/ يونيو في تونس على إيقاع الامتحانات الوطنية ونتائجها، فأرقامها تعكس إلى حد ما أداء الجهاز التربوي ومن ورائه سياسات الدولة فيه، وشيئاً من واقع المجتمع وأوضاعه بشكل عام.
كما أن الأحداث الحافة بها تؤشر على متغيّرات عديدة اجتماعية وسياسية وسلوكية مثل إجراءات منع الغش (الذي تحوّل إلى ظاهرة في العشر سنوات الأخيرة) أو إقالة وزير (التربية) كما حصل هذا العام مع ناجي جلول منذ أسابيع.
ما لفت في نتائج هذا العام على مستوى أبرز امتحان وطني؛ البكالوريا، هو نسبة النجاح الهزيلة التي سُجّلت في شعبة الآداب حيث نجح 13% من المترشحين. هذا الرقم كان سبباً في إطلاق شائعة فيسبوكية تقول بأنه سوف يجري قريباً إلغاء هذه الشعبة، وهو ما نفته وزارة التربية، ورغم ذلك فإن هذه الشائعة كانت شرارة جدل في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي وكأن ثمة من ينتظرها كي يدخل في سجالات محمومة.
الإشاعة وإن كانت لا تمتّ إلى الواقع العملي بصلة، ولا يمكن قبولها منطقياً، إلا أنها تكشف شيئاً مما يدور في الإدراك الجمعي، فشعبة الآداب حظيت بتهميش منذ عقود، مقابل إعلاء شأن الشعب العلمية، وهو رهان رسمي بدأ منذ قرابة أربعة عقود، ولا يبدو أن البلاد نجحت في قطف ثمراته؛ على العكس كان توجيه الطلبة إلى الشعب العلمية، وتهميش المواد الأدبية والفنية، من بين تفسيرات ظهور آفات اجتماعية كثيرة ليس أقلّها التطرّف الديني أو تدنّي الذوق العام.
الحصيلة الهزيلة لشعبة الآداب يمكن إرجاعها إلى أسباب منطقية، وليس الأمر متعلقاً فقط بخيارات الدولة في التعليم، إذ توازيها نظرة اجتماعية تعلي من شأن المواد العلمية وتضع المهن المرتبطة بها في أعلى درجات التبجيل الاجتماعي مثل الأطباء والمهندسين. هذه النظرة جعلت من مواد مثل الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية أولوية لدى الأسر التونسية، حيث يجري رصد مبالغ مالية لساعات الدروس الخصوصية للنفخ في الأعداد التي تؤهّل لهذه التخصّصات.
في مقابل ذلك، يمكن القول بأن شعبة الآداب تحظى بنظرة تحقيرية إلى حدّ كبير، ولعل النتيجة الهزيلة المسجّلة يمكن تفسيرها ببساطة كون الذين يمرّون إلى البكالوريا عبر مسار شعبة الآداب (إلا من اختاروها عن قناعة ورغبة) هم في جزء كبير منهم ممّن لم يقدروا على متطلبات شعب الرياضيات والاقتصاد والعلوم التقنية.
هكذا يجري تصوير الشعبة كجحيم يسقط فيه كل من لم تكن له مؤهلات الدخول إلى "جنان" الشعب الأخرى، وهي جنان مزيفة حيث أن التخصّصات العلمية مثلها مثل الأدبية يجد أغلب خرّيجيها أنفسهم أمام صعوبات الاندماج في سوق الشغل وغيرها.
يمكننا أن نقارن بين ما حققته شعبة الآداب، وما حققته شعب أخرى (الرياضيات 52 % والعلوم التجريبية 46 %)، لكن هل نستطيع أن نقول إن هذه الاختصاصات بخير؟ إنها لا تستطيع أن تكون كذلك، فالخلل في عنصر من عناصر العقل الجمعي يدلّ على عطب عام. والإشاعة، ورغم أنها كذلك، ينبغي على الجميع الانتباه إلى الرسائل التي تقولها ضمنياً عن المستقبل التونسي.