كثيرة هي عادات شهر رمضان في السودان. فهو يتخذ مظهراً اجتماعياً يشتهر بالإفطارات التي تقام في الشوارع وعلى الطرقات العامة طوال أيام الشهر. وفيها تتجلى قيم التكافل الاجتماعي.
تحمل الأسر في الحي الواحد صواني الإفطار مصحوبة بالعصائر إلى الشارع. يتجمع عندها شباب ورجال وأطفال الحي للإفطار سوياً مزيلين كلّ الحواجز. كما تمثل مبادرة لإفطار المارة.
مع ذلك، فإنّ هذا المظهر بدأ في الاختفاء من بعض الأحياء السودانية الشعبية، بينما انعدم تماماً في الأحياء الراقية والأحياء الجديدة بسبب ضعف التعارف بين الجيران وانشغال بعضهم بظروف الحياة المعيشية. ويرجح باحثون اجتماعيون اختفاءها تماماً خلال الفترة المقبلة كنتاج للمتغيرات في المجتمع السوداني، وتأثراً بالانفتاح على الفضائيات والإنترنت، بالإضافة إلى الهجرة من الريف إلى المدن.
ما زال الريف يحتفظ بالإفطار في الشوارع. وفيه تفرش مجموعة من الحصر البلاستيكية، فترصّ فوقها صواني الإفطار المؤلف من "العصيدة والويكة" الوجبة الرئيسية، فضلاً عن "الحلو مر" وهو المشروب الرمضاني المحبب للسودانيين.
في المقابل، بدأ شباب سودانيون، عبر مسميات مختلفة، إحياء قيمة التكافل الرمضاني بتوزيع الإفطار بالقرب من المستشفيات والجسور والطرقات الرئيسية. بل يتبارون في تقديم هذه الخدمة.
يقول طارق (40 عاماً) لـ"العربي الجديد" إنّه يحرص على الإفطار في الشارع مع أفراد الحيّ. وهي عادة موروثة من أجداده يعتبرها تأكيداً على التكافل الاجتماعي، ومساحة لتفقد الجيران والتعرف على أحوالهم، وتقديم العون إليهم لا سيما أنّ الناس في غير رمضان ينشغلون بأنفسهم. يؤكد أنّ هذه العادة تقوّي العلاقات بين أبناء الحي الواحد، كما تخلق علاقات جديدة لا سيما مع استقبالهم كلّ يوم بعض المارة. وهي علاقات قد تصبح مستمرة ووطيدة.
أما أحمد (37 عاماً) فيؤكد أنّه لا يميل إلى الإفطار في الشارع بالرغم من علاقته الجيدة بأهل حيّه، لأنّه يعتبر أنّ لرمضان خصوصية. ويفضل أن يفطر مع أسرته الصغيرة لأنّه بحكم عمله يقضي الأشهر الباقية خارج المنزل، وقد لا تجمعه بأطفاله وجبة حتى يوم الإجازة الرسمية. يضيف: "لكنّ ابني الأكبر يصرّ أحياناً على أن نخرج إلى الشارع مع الجيران. وتحت إصراره أخرج أحياناً".
بدورها، تقول إيمان إنّ زوجها لديه رغبة قوية دائمة بالخروج إلى الشارع. لكنّ المشكلة أنّهم سكنوا أخيراً في حي جديد بيوته شقق سكنية. وكلّ فرد منهم يغلق عليه بابه ويفطر داخل منزله.
تمثل الأسر الممتدة الأساس في المجتمع السوداني. ويتعاظم دورها في شهر رمضان، ففيه يحرص السودانيون في العادة على إفطار اليوم الأول من رمضان في البيت الكبير، أي منزل العائلة الذي يضم الجد والجدة. كما يحرصون على الإفطار في منزل من فقد فرداً في أسرته من العائلة الممتدة، كنوع من المواساة وتخفيف الحزن عليهم. ويحرصون أيضاً على جمع احتياجات رمضان والدفع بها إلى تلك الأسرة.
تقول رشا (29 عاماً): "لا أذكر أنّنا أفطرنا أول يوم في رمضان في منزلنا. ففي العادة تأخذنا والدتي إلى منزل جدتي حيث تجتمع العائلة". تضيف: "بعد وفاتها وحتى بعد زواجنا أنا وشقيقاتي، ما زلنا نمارس العادة نفسها في الاجتماع لدى والدتي".
يقول أستاذ الصحة النفسية والاجتماعية علي بلدو إنّ المجتمع السوداني تعرض إلى كثير من المتغيرات. يشير إلى تأثر المجتمع بالانفتاح على العالم عبر الفضائيات والإنترنت، وما في ذلك من استلاب ثقافي. وهو ما أدى إلى تغيرات في البنية الاجتماعية واهتزاز القيم الأساسية الخاصة بالتكافل والتكاتف والتراحم، لا سيما في رمضان. يعتبر بلدو أنّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية قادت إلى الحد من التواصل مع الآخرين والانزواء والتقوقع داخل الأسرة الصغيرة.
يؤكد بلدو أنّ نشوء مجتمعات سكانية جديدة أفرادها من أماكن شتى، ومن دون سابق معرفة وترابط بينهم، فضلاً عن الهجرة من الريف إلى المدن، وتواجد أعداد كبيرة من الأجانب، بالإضافة إلى ضغوط العمل، كلّها عوامل خلقت مشاكل في قنوات التواصل. كما أوجدت شعوراً بالرهبة والتوجس من الآخر، والخوف من الانتقاد والنوازع السلبية مثل الشك وعدم اليقين والخوف من الوقوع في شجارات. يضيف: "كلّ هذا أدى إلى ضياع صينية رمضان وظهورها من حين إلى آخر فحسب. وهي حتماً في طريقها إلى الاندثار في ظل الظروف الحالية التي تنذر بغياب الكثير من ملامح المجتمع السوداني".