يعيش مئات آلاف المدنيين في الغوطة الشرقية لدمشق يوميات مليئة بجوع الحصار، بالترافق مع غارات مستمرة عليهم. مع ذلك، لا تتحرك منظمات الإغاثة.
تستمر معاناة سكان الغوطة الشرقية في العاصمة دمشق من حصار القوات النظامية لها، وهي المنطقة التي يقطنها أكثر من 360 ألف نسمة والتي لا يستثنيها الطيران الحربي السوري والروسي من مجازر يومية، بالرغم من توقيع اتفاقية خفض التصعيد.
في غوطة دمشق 53 بلدة وقرية، تحول 32 منها إلى ساحات معارك وخطوط جبهات، ما أدى إلى نزوح الأهالي باتجاه وسط الغوطة الشرقية. خلال الشهور الستة الماضية، لم تتمكن فرق الأمم المتحدة خلالها إلا من إدخال قرابة عشرة آلاف سلة غذائية على دفعتين، لا تغطي حاجة أكثر من 10 في المائة من السكان لعدة أيام فقط.
لم يمنع الحصار وحملة القصف اليومي المتواصلة، المؤسسات المدنية التابعة للمعارضة من متابعة عملها وجهودها لتقديم خدماتها للمحتاجين، وتواصل المجالس المحلية جهودها، وتطوير أعمالها بالرغم من الخطر المستمر المحدق بمشاريعها وكوادرها.
يقول أحد عمال الصيانة من بلدة حمورية لـ"العربي الجديد": "كما ترون فإنّنا مستمرون في العمل، بالرغم من التهديد المحيط بعملنا كلّ لحظة. عمال النظافة على رأس عملهم، وكذلك أعضاء المجلس والدفاع المدني، وعمال المقابر الذين يتولون دفن الشهداء، كلّ طواقمنا مستهدفة، بعضهم يستشهد ويصاب أثناء ممارسة عمله، فالحصار والقصف تحول إلى جزء من حياتنا، والجميع مصرون على استمرار الحياة ونيل مطالبنا".
خلال سنوات الحصار، كان الأهالي يعتمدون على مصدرين أساسيين لمواصلة حياتهم بحدّها الأدنى، أولها المعونات المقدمة من المنظمات الإغاثية والجمعيات الخيرية، ثم الزراعة. لكنّ انخفاض معدلات الدعم أدى إلى تراجع حياة الناس بشكل كارثي، وتسبب بانتشار حالات نقص التغذية والفقر المدقع، وأصبح مشهد البحث عن بقايا الطعام شائعاً في الشوارع.
يقول عمران الذي يتولى إدارة فرع تركيا في المكتب الإغاثي الموحد بالغوطة الشرقية لـ"العربي الجديد": "في الآونة الأخيرة، انخفض الدعم من المنظمات الدولية الكبيرة كالأوتشا (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية) وكذلك الدعم الخليجي، واقتصر الدعم القطري على مؤسسة قطر الخيرية والهلال الأحمر القطري، وانخفاضه يأتي على خلفية الأوضاع السياسية القائمة في المنطقة عموماً، ويزيده اعتبار غوطة دمشق منطقة محاصرة وذات مخاطر عالية، الأمر الذي يدفع إلى الإحجام عن دعمنا وتنفيذ مشاريع لدينا، مقارنة مع مناطق سورية أخرى".
إلى جانب المساعدات الإغاثية، كان الأهالي يعتمدون على الأراضي الزراعية، يزرعون فيها القمح وبعض الخضر الصيفية التي تسد جزءاً من حاجتهم، لكنّ سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها طيران النظام واستهدافه المتعمد لها، حرم الأهالي من الاستفادة منها، بعدما كانت حجراً يسند خابية جوع كثيرين.
منذ عدة أيام تمكن أحد التجار المعروفين، من إدخال كمية محدودة من المواد الغذائية للغوطة، بعدما فرضت حواجز النظام ضريبة على دخول كلّ كيلوغرام مبلغ ألفي ليرة سورية (نحو أربعة دولارات أميركية). يسمح النظام بإدخال كميات محدودة من المواد الإغاثية عن طريق معبر مخيم الوافدين، والذي يعقد اتفاقاً مع أحد التجار لتوريدها وإدخالها. ويتحكم النظام بأسعارها ويفرض إتاوات عليها، وغالباً ما يتفق ضباط النظام مع هذا التاجر بالذات كطرف لإدخالها إلى المناطق المحاصرة، الأمر الذي زاد من نفوذه وثروته بنتيجة تحكمه بأسعار المواد في الغوطة.
يقول الناشط كريم الدمشقي لـ"العربي الجديد": "قبل بداية الثورة كان هذا التاجر متوسط الحال يعمل في مجال تربية الأبقار، ومع اشتداد الأزمة الإنسانية، توصل إلى اتفاق مع النظام بمعونة أصدقاء له في دمشق، لنقل الحليب وتسويقه بمناطق سيطرة النظام بدمشق بأسعار مخفضة، شريطة دفع عمولات لضباط النظام للسماح بخروجها. ونتيجة لتزايد أرباحه وتوسع أعماله، افتتح مزارع لتربية الأبقار، واشترى آلات لصناعة الألبان والأجبان من أبناء المنطقة الذين اضطروا لبيعها نتيجة توقف أعمالهم. ومع ظهور الأنفاق التي كانت تنقل المواد الإغاثية عن طريقها، والتي انتهت منذ نحو عام بعد تدميرها، بدأ بجلب المواد الغذائية الأساسية كالقمح والأرز والسكر والشاي وغيرها عن طريق معبر النظام".
مشهد عام للغوطة الشرقية تحت القصف (فرانس برس) |
يضيف الدمشقي: "لهذا التاجر علاقات جيدة مع الفصائل العسكرية المعارضة، ورجال النظام بدمشق، يدفع الإتاوات لهم لقاء السماح بإدخال المواد عن طريقه، ثم يبيعها لتجار الجملة، وتنقل بعدهم إلى الباعة الأصغر، الأمر الذي جعله أميراً على السوق، يتحكم فيها ويحتكرها، يطرح المواد في الأسواق ويسحبها وقت يشاء، وبالتالي يتحكم بأسعارها".
في المقابل، يقول عمران: "المسؤول الأول والأساسي عن حصار الغوطة هو النظام، فهو من يتحكم بكميات المواد الداخلة وأسعارها وهو من يفرض الضرائب العالية، أما ذاك التاجر وأمثاله فقد زادت ثرواتهم نتيجة انفرادهم بالتوريد".
الوضع الإنساني الكارثي الذي وصلت إليه المنطقة، دفع بآلاف السوريين حول العالم، إلى إطلاق حملات تبرعات مالية فردية وجماعية، نتيجة تعذر إمكانية وصول المساعدات العينية كمحاولة لدعم صمود الأهالي. تصل المبالغ إلى جمعيات وأفراد في غوطة دمشق، ليجري توزيعها على المحتاجين، ويساهم فيها كثير من السوريين حول العالم بالرغم من ضعف إمكاناتهم المادية. غالب التبرعات يصل إلى تركيا ثم يحول إلى سورية عبر شركات صرافة. وتتراوح عمولات التحويل بين 5 و20 في المائة بحسب الأوضاع الميدانية الحاكمة في غوطة دمشق.
يقول عبد الرحمن الهلال الذي يعيش في فرنسا لـ"العربي الجديد": "ما رأيته من مآس على شاشات التلفزيون دفعني لجمع مبلغ خمس مئة يورو، من تعويض اللجوء الذي نأخذه في فرنسا، أرسلتها عن طريق إحدى شركات التحويل، إلى تركيا ثم الغوطة، للأسف كلفني وصول المبلغ لمستحقيه مائة يورو، أي دفعت عشرين في المائة منه كأجور تحويل، لو أنّ هناك جهات رسمية تنظم هذا العمل لوصل المبلغ كاملاً، فأهلنا هناك في حاجة إلى كلّ دولار يصل إليهم يخفف عنهم وطأة معاناتهم".
مبادرة شبابية
أطلق عدد من الناشطين السوريين موقعاً باللغة الإنكليزية، هدفه تسهيل جمع التبرعات للغوطة الشرقية. تقول الناشطة مرسيل شحوارو لـ"العربي الجديد": "نحاول إعادة معاناة أهالي الغوطة إلى دائرة اهتمام العالم، مستهدفين الأفراد لحثهم على الضغط على الحكومات وصانعي القرار والمنظمات ممن تخلوا منذ سنوات عن مدنيي الغوطة".