23 مليون فرنسي شاهدوا مساء الاثنين، خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون، طيلة 12 دقيقة، بعد غياب عن السمع دام أياماً، إثر موجة الغضب ضد سياساته الاقتصادية الاجتماعية والعنف في فرنسا. حاول ماكرون بوضعية امتزجت فيها العاطفة مع"الاعتراف بالذنب"، الغريب على شخصيته المتعالية، التشديد على أن كفاحه هو "من أجل فرنسا والفرنسيين"، محذّراً من فشله في إيصال ما يريده إلى الفرنسيين. لم يكن الرئيس الفرنسي مرتاحاً في خطابه المسجل منذ بعد ظهر الاثنين في مكتبه، وهو يعلم أن عليه عدم ارتكاب أي هفوة لفظية أو سياسية، وهو ما جعل مستشاريه يقنعونه بأن يكون الخطاب مسجَّلاً لا مباشراً.
ثمة معطيات دلّت على أن ماكرون كان بالغ التأثر ومقدّراً للمسؤولية وللانتظار، أو على الأقل انتظار الأغلبية الشعبية المستعدة لمواصلة التحدي، إذا لم يتوجه إليها ويقنعها "بالأفعال لا بالكلام". وما اعترافه بأخطائه، في بداية خطابه، سوى دليل على أنه فهم أسباب الغضب الشعبي الشرعي، من دون أن يعني ذلك اقتناعه بأن المطلوب هو أكثر بكثير مما أعلنه، ذلك أن "رئيس الأثرياء ورجال الأعمال" مثلما يلقبه خصومه، لم يقترب من جيوب الأغنياء في قراراته، بما أنه صال وجال ولم يمسّ لب الموضوع: إعادة فرض الضريبة على عقارات الأثرياء، التي ألغاها منذ تولى الرئاسة بعد سريانها لأربعين عاماً.
وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات غير كافية بتاتاً بالنسبة لـ"السترات الصفراء" ولأحزاب اليمين واليسار، بأطيافهما المعتدلة والراديكالية والمتطرفة، كما أجمع الساسة والفاعلون الاجتماعيون، إلا أن كلفتها على الميزانية، تتراوح ما بين 8 و10 مليارات يورو. ورأت المعارضة أنها قد تصل إلى 14 مليار يورو. ولم يخبر ماكرون مواطنيه من أين سيأتي بهذا المبلغ من أجل رفع الحد الأدنى للأجور 100 يورو بدءاً من 2019، ولكي يعفي المتقاعدين الفقراء من بعض الضرائب، ولكي يلزم القطاع الخاص بزودة سنوية على رواتب موظفيه، وإعفاء ساعات العمل الإضافي من الضرائب.
لهذا السبب استدعى الرئيس الفرنسي، صباح أمس الثلاثاء، ممثلي الشركات الكبرى، لحثهم على المساهمة في المجهود الاقتصادي، تحديداً بما يتعلق بتقديم "منحة" (زيادة) نهاية السنة، والتي ستقدمها الشركات الكبرى، بصفة اختيارية، إذا رأت أنها قادرة على ذلك، وهو ما لن تستطيع الشركات الصغرى أن تقوم به. وفي هذا الصدد صرح الأمين العام للحزب الاشتراكي أوليفييه فور أن "الفرنسيين هم من سيدفع ثمن رفع القدرة الشرائية"، مؤكداً أن "المعارضة البرلمانية، مجتمعة ستدافع عن حجب الثقة عن الحكومة".
وحاول رجال الرئيس ووزراؤه تسويق الإجراءات الرئاسية، وفي هذا الصدد أعلنت وزيرة الصحة، أنييس بوزين، عن تقديم الحكومة لمنحة عيد الميلاد على أن تستفيد منها 2.3 مليون أسرة في فرنسا، بمبلغ 152.45 يورو للشخص الواحد و274.41 يورو لثنائي مع ولد من أجل دفع القدرة الشرائية في فترة الأعياد، على أن يتمّ تسليمها يوم الجمعة المقبل.
أما فيما يخصّ المعنيين المباشرين بأخطر أزمة في باريس، منذ عام 1968، أي "السترات الصفراء"، فإذا كانوا قد استطاعوا الإطاحة بالضرائب على المحروقات، فإنهم يرون أن الإجراءات التي أعلن عنها ماكرون، يوم الاثنين الماضي، غير كافية، فرفع الحد الأدنى للأجور بـ 100 يورو شهرياً، لن يستفيد كثيرون منه، خصوصاً أن كثراً من المنضمين إلى "السترات الصفراء" تتراوح مرتباتهم ما بين 1300 و1500 يورو، وهم خارج هذا الإجراء. في الواقع، لا يزال المضربون من حركة "السترات الصفراء" في العديد من المواقع، يحاصرون ويتظاهرون ويقطعون الطرقات. ففي يوم الاثنين، خرج 11500 متظاهر في عموم فرنسا وحصلت 225 عملية محاصرة لمعمل تكرير النفط. وأكد معظم ممثليهم أن إجابات ماكرون وحكومته غير كافية، فلا شيء واضحاً حول موضوع العدالة الضريبية، ولا نية واضحة لجعلها تساهم في المجهود الوطني. وهو ما يجعل من الطبيعي الانتقال إلى الجولة الخامسة من الغضب الشعبي في الشارع، حتميا يوم السبت المقبل، وكل أيام السبت المتبقية في هذا الشهر، وهو ما يتمناه رئيس "فرنسا غير الخاضعة"، ميلانشون.
وتحاول حركة "السترات الصفراء" تجميع قواها، ومحاولة الاتفاق على موقف معين من الحكومة، وهي واعية بأن بعض الالتفاف من حولها قد يخفت، خصوصاً أن بعض رموز اليمين التقليدي، التي رأت بدء تنفيذ ماكرون لبعض برامجها، بدأت تطالب صراحة بوقف الاحتجاجات، ومن بينها إيريك فورث وألان جوبيه وآخرون من معتدلي حزب "الجمهورية" اليميني.