قلّما يصل زوار حي السليمانية بإسطنبول، إلى ما وراء "الجادة" والأماكن الأثرية المشهورة، إذ يتخفّى خلف كل ذلك التاريخ والآثار، مبان فارغة منزوعة الأبواب والنوافذ، يقطنها "الغجر" الذين يعودون بحسب مصادر خاصة لـ"العربي الجديد" إلى أصول رومانية أو مهاجرين جاؤوا إلى الأناضول من شمال الهند، والذين يعمل جلهم بجمع الورق والعبوات البلاستيكية الفارغة، ليحلوا اليوم، مكان طلاب العلم، الذين اشتهر بهم حي السليمانية، أعرق أحياء إسطنبول خلال الفترة العثمانية.
وزاد من تشويه جمالية السليمانية، البناء العشوائي وعدم متابعة البلديات خلال الحكومات السابقة، ما غيّر من معالم أجزاء من المنطقة التي استخدمها أصحاب الأعمال غير المرخصة، واعتمادها كمخازن لقربها من الأسواق الرئيسية، للحد الذي يخفي جمال السليمانية إن نظرت لها من طرف البوسفور.
اليوم، وبعد ما طورته بلديتا إسطنبول الكبرى والفاتح بالحي وعبر سنوات، دخلت شركة الديار القطرية، للمشاركة بتجديد "السليمانية" بعد تنفيذها مشروع "سي بيرل" على ساحل أتاكوي بإسطنبول، ووضعت قبل أيام، حجر الأساس لمشروع إعادة تطوير منطقة السليمانية التاريخية، بالتعاون مع وزارة البيئة والتخطيط العمراني التركية وعلى مساحة 102 ألف متر مربع، ليضفي المشروع الجديد المكوّن من مبانٍ سكنية وتجارية وفنادق وطرق وأماكن مشاة، طبعاً بالتوازي مع إعادة تطوير المواقع الأثرية والتراثية مثل المساجد والآبار والنوافير، وبمبلغ 3.1 مليارات ريال قطري (851 مليون دولار)؛ على الحي، تناغماً بين التاريخ والحاضر، حين انتهائه وفق العقد، بالتزامن مع احتفالات تركيا بمرور مئوية تأسيس الجمهورية عام 2023.
قبل أن نأتي على ما في حي السليمانية من آثار وكنوز، ربما من الأهمية الإشارة إلى عمليات الترميم العديدة التي لحقت الحي، والتي منها ما أمر به السلطان محمد الرابع عام 1660 للميلاد، بعد أن أكلت النيران بعض مباني الحي وانسجامه التاريخي، أو الترميمات التي حدثت بعد زلزال 1766 الذي أتى على جزء من قبة المسجد الرئيسية، كما طاول التهديم منطقة السليمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وقت استخدمت ساحة الجامع لتكون مستودعا للذخيرة، وشبّ حريق جراء اشتعال الذخائر أدى إلى احتراق هائل بالجامع ولم يستكمل ترميمه إلا في عام 1956، أو آخر الترميمات التي طاولت المسجد وبعض "دور التعليم" والتي انتهت عام 2010 وقت أعاد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان افتتاح جامع السليمانية خلال عيد الأضحى.
اقــرأ أيضاً
ومما لحق آثار السليمانية من تحولات، تبدل المطبخ أو تكية السليمانية إلى مطعم سياحي يسمى "دار الضيافة" والاحتفاظ بالقاعات الخمس الكبرى بالمبنى والتي تقع تحت القباب وتستوعب قاعة سليمان القانوني، وهي كبرى القاعات، ما يقرب من 350 فردا، بينما تستوعب قاعة سنان نحو 250 فردا، وباقي القاعات تستوعب قرابة 150 فردا، ويفخر العاملون بالمطعم بأنهم يستطيعون تقديم المأكولات التركية لأكثر من ألف شخص في نفس الوقت، ويتبع المطعم فلسفة خاصة تتمثل في دمج طقوس المطبخ العثماني العريق بخبرة المطبخ التركي الحديث.
وقبل الإتيان على ذكر جامع السليمانية الشهير، ثاني أكبر مجمع عثماني بعد الفاتح، ثمة آثار ومواقع سياحية بالحي، منها حمام السليمانية الذي شيده المعمار سنان أغا في عام 1557، وهو حمام تركي تقليدي به ثلاث مراحل بداية من البارد للفاتر للساخن، وتتراوح درجة الحرارة فيه بين 40 و60 درجة مئوية، وبني الحمام على شكل قبة ليتناغم مع مجمع السليمانية، وجدرانه المرصعة بالرخام.
ولا يمكن المرور بالسليمانية أو خلال ذكر الحي، دون التطرق للمطاعم القديمة والمقاهي الشهيرة، وأشهرها، مقهى المعماري سنان ومقهى حسنو علا الواقع بجانب ميدان السليمانية ولزائره فرصة لمشاهدة مضيق البوسفور، والقرن الذهبي وبرج غَلَطَة الشهير، ومن الجهة اليمنى يُطِلّ على جامع "يني جامع" في ميدان أمينونو.
وبالجادة أيضاً، مكتبة السليمانية، وهي مستودع لأكبر مجموعة من المخطوطات الإسلامية في العالم، وأحدث مخطوط بها يرجع عمره إلى مائتي عام، وأنشئت لغرض الحفاظ على المخطوطات الأثرية القيمة، وتتضمن أكثر من 130 ألف مخطوطة، منها نحو 67 ألفا مخطوطة باللغات العربية والعثمانية "التركية القديمة" والفارسية، في الطب والقانون والعلوم والموسيقى، وفيها كتاب "علم البصريات" لابن الهيثم الذي يعد أقدم كتاب في هذا العلم وأيضا "كتاب القانون" في الطب لابن سينا. والكثير من الكتب الموجودة بالمكتبة تمت طباعتها بمطبعة بولاق الأميرية بالقاهرة. ومن الكتب المهمة بالمكتبة نسخة تركية مترجمة من العربية من كتاب "المسألة المصرية" الذي يجسد إشكالية تمدد نفوذ الدولة المصرية إبان حكم محمد علي، وأيضا هناك الكتب الأصلية للرحالة العثماني أوليا شلبي، إلى جانب 50 ألف كتاب عثماني مطبوع، وآلاف الكتب الأخرى باللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية.
اقــرأ أيضاً
وأما ما يصنّف الأهم بحي السليمانية ويعتبر، كما أسلفنا، أكبر المجمعات العمرانية، بعد مجمع الفاتح، فهو جامع السليمانية الذي لساحته الخارجية الكبرى أحد عشر بابا تفضي إلى مقبرة وأربع مدارس ومشفى وفندق ودكاكين وحمامات ومدرسة، المسجد وضريح المعماري سنان آغا.
ويبقى لجامع السليمانية، نسبة للسلطان سليمان القانوني، خصوصية بين جميع مساجد إسطنبول البالغة، 3269 مسجداً، ولعل الخصوصية لا تتأتى من كونه الأكبر فحسب، بل لكثرة ما قيل قبل بنائه وتوقف بنائه ومن ثم ما حمل من أسرار معمارية، حاول المعماري سنان أن تكون إعجازاً، للحد الذي يقال، إن بعض طلاسمها لم يفكها المهندسون حتى اليوم، ولعل بصمود المسجد رغم نحو مئة زلزال ضربت إسطنبول منذ بنائه، حتى دونما أي تشقق، ما يؤكد تلك الأسرار.
وفي عام 1550 وبأمر من السلطان سليمان، بنى المعماري سنان الجامع على تلة مرتفعة تطل على مضيق البوسفور وخليج القرن الذهبي، بقلب إسطنبول، ليأخذ الجامع الشكل المستطيل القريب إلى المربع، حيث يبلغ طوله 69 م وعرضه 63م، وتغطى أرضية الساحة بألواح المرمر تتوسطها نافورة الوضوء، تزينها قضبان برونزية، ويحيط بالساحة ممرات جانبية من جهاتها الثلاث، تعلو هذه الممرات 28 قبة، ترتكز على 24 عمودا، وهي مرتبطة بأقواس صغيرة.
ويبدو لكل شيء بهذا المسجد رمزيته، إذ تعمّد سنان، إظهار كل براعته وفنون العمارة، فالمآذن الأربع ترمز لترتيب السلطان سليمان القانوني الرابع من بين سلاطين الدولة العثمانية بعد فتح إسطنبول، والمآذن العشرة، تدُلّ على ترتيب السلطان سليمان العاشر بين سلاطين الإمبراطورية العثمانية.
اليوم، وبعد ما طورته بلديتا إسطنبول الكبرى والفاتح بالحي وعبر سنوات، دخلت شركة الديار القطرية، للمشاركة بتجديد "السليمانية" بعد تنفيذها مشروع "سي بيرل" على ساحل أتاكوي بإسطنبول، ووضعت قبل أيام، حجر الأساس لمشروع إعادة تطوير منطقة السليمانية التاريخية، بالتعاون مع وزارة البيئة والتخطيط العمراني التركية وعلى مساحة 102 ألف متر مربع، ليضفي المشروع الجديد المكوّن من مبانٍ سكنية وتجارية وفنادق وطرق وأماكن مشاة، طبعاً بالتوازي مع إعادة تطوير المواقع الأثرية والتراثية مثل المساجد والآبار والنوافير، وبمبلغ 3.1 مليارات ريال قطري (851 مليون دولار)؛ على الحي، تناغماً بين التاريخ والحاضر، حين انتهائه وفق العقد، بالتزامن مع احتفالات تركيا بمرور مئوية تأسيس الجمهورية عام 2023.
قبل أن نأتي على ما في حي السليمانية من آثار وكنوز، ربما من الأهمية الإشارة إلى عمليات الترميم العديدة التي لحقت الحي، والتي منها ما أمر به السلطان محمد الرابع عام 1660 للميلاد، بعد أن أكلت النيران بعض مباني الحي وانسجامه التاريخي، أو الترميمات التي حدثت بعد زلزال 1766 الذي أتى على جزء من قبة المسجد الرئيسية، كما طاول التهديم منطقة السليمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وقت استخدمت ساحة الجامع لتكون مستودعا للذخيرة، وشبّ حريق جراء اشتعال الذخائر أدى إلى احتراق هائل بالجامع ولم يستكمل ترميمه إلا في عام 1956، أو آخر الترميمات التي طاولت المسجد وبعض "دور التعليم" والتي انتهت عام 2010 وقت أعاد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان افتتاح جامع السليمانية خلال عيد الأضحى.
ومما لحق آثار السليمانية من تحولات، تبدل المطبخ أو تكية السليمانية إلى مطعم سياحي يسمى "دار الضيافة" والاحتفاظ بالقاعات الخمس الكبرى بالمبنى والتي تقع تحت القباب وتستوعب قاعة سليمان القانوني، وهي كبرى القاعات، ما يقرب من 350 فردا، بينما تستوعب قاعة سنان نحو 250 فردا، وباقي القاعات تستوعب قرابة 150 فردا، ويفخر العاملون بالمطعم بأنهم يستطيعون تقديم المأكولات التركية لأكثر من ألف شخص في نفس الوقت، ويتبع المطعم فلسفة خاصة تتمثل في دمج طقوس المطبخ العثماني العريق بخبرة المطبخ التركي الحديث.
وقبل الإتيان على ذكر جامع السليمانية الشهير، ثاني أكبر مجمع عثماني بعد الفاتح، ثمة آثار ومواقع سياحية بالحي، منها حمام السليمانية الذي شيده المعمار سنان أغا في عام 1557، وهو حمام تركي تقليدي به ثلاث مراحل بداية من البارد للفاتر للساخن، وتتراوح درجة الحرارة فيه بين 40 و60 درجة مئوية، وبني الحمام على شكل قبة ليتناغم مع مجمع السليمانية، وجدرانه المرصعة بالرخام.
ولا يمكن المرور بالسليمانية أو خلال ذكر الحي، دون التطرق للمطاعم القديمة والمقاهي الشهيرة، وأشهرها، مقهى المعماري سنان ومقهى حسنو علا الواقع بجانب ميدان السليمانية ولزائره فرصة لمشاهدة مضيق البوسفور، والقرن الذهبي وبرج غَلَطَة الشهير، ومن الجهة اليمنى يُطِلّ على جامع "يني جامع" في ميدان أمينونو.
وبالجادة أيضاً، مكتبة السليمانية، وهي مستودع لأكبر مجموعة من المخطوطات الإسلامية في العالم، وأحدث مخطوط بها يرجع عمره إلى مائتي عام، وأنشئت لغرض الحفاظ على المخطوطات الأثرية القيمة، وتتضمن أكثر من 130 ألف مخطوطة، منها نحو 67 ألفا مخطوطة باللغات العربية والعثمانية "التركية القديمة" والفارسية، في الطب والقانون والعلوم والموسيقى، وفيها كتاب "علم البصريات" لابن الهيثم الذي يعد أقدم كتاب في هذا العلم وأيضا "كتاب القانون" في الطب لابن سينا. والكثير من الكتب الموجودة بالمكتبة تمت طباعتها بمطبعة بولاق الأميرية بالقاهرة. ومن الكتب المهمة بالمكتبة نسخة تركية مترجمة من العربية من كتاب "المسألة المصرية" الذي يجسد إشكالية تمدد نفوذ الدولة المصرية إبان حكم محمد علي، وأيضا هناك الكتب الأصلية للرحالة العثماني أوليا شلبي، إلى جانب 50 ألف كتاب عثماني مطبوع، وآلاف الكتب الأخرى باللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية.
وأما ما يصنّف الأهم بحي السليمانية ويعتبر، كما أسلفنا، أكبر المجمعات العمرانية، بعد مجمع الفاتح، فهو جامع السليمانية الذي لساحته الخارجية الكبرى أحد عشر بابا تفضي إلى مقبرة وأربع مدارس ومشفى وفندق ودكاكين وحمامات ومدرسة، المسجد وضريح المعماري سنان آغا.
ويبقى لجامع السليمانية، نسبة للسلطان سليمان القانوني، خصوصية بين جميع مساجد إسطنبول البالغة، 3269 مسجداً، ولعل الخصوصية لا تتأتى من كونه الأكبر فحسب، بل لكثرة ما قيل قبل بنائه وتوقف بنائه ومن ثم ما حمل من أسرار معمارية، حاول المعماري سنان أن تكون إعجازاً، للحد الذي يقال، إن بعض طلاسمها لم يفكها المهندسون حتى اليوم، ولعل بصمود المسجد رغم نحو مئة زلزال ضربت إسطنبول منذ بنائه، حتى دونما أي تشقق، ما يؤكد تلك الأسرار.
وفي عام 1550 وبأمر من السلطان سليمان، بنى المعماري سنان الجامع على تلة مرتفعة تطل على مضيق البوسفور وخليج القرن الذهبي، بقلب إسطنبول، ليأخذ الجامع الشكل المستطيل القريب إلى المربع، حيث يبلغ طوله 69 م وعرضه 63م، وتغطى أرضية الساحة بألواح المرمر تتوسطها نافورة الوضوء، تزينها قضبان برونزية، ويحيط بالساحة ممرات جانبية من جهاتها الثلاث، تعلو هذه الممرات 28 قبة، ترتكز على 24 عمودا، وهي مرتبطة بأقواس صغيرة.
ويبدو لكل شيء بهذا المسجد رمزيته، إذ تعمّد سنان، إظهار كل براعته وفنون العمارة، فالمآذن الأربع ترمز لترتيب السلطان سليمان القانوني الرابع من بين سلاطين الدولة العثمانية بعد فتح إسطنبول، والمآذن العشرة، تدُلّ على ترتيب السلطان سليمان العاشر بين سلاطين الإمبراطورية العثمانية.