إعادة بناء المفاوضات والخيارات الفلسطينية البديلة

03 أكتوبر 2014

تظاهرة في غزة ضد المفاوضات مع "إسرائيل" (29أغسطس/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

قيل الكثير عن مسلسل المفاوضات العبثية على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، الذي تتوالى فصوله الفاشلة، منذ اتفاق أوسلو عام 1993، وآخرها "مفاوضات الإطار" التي اقترحها ورعاها وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، وسيقال الكثير عن فصول أخرى قادمة، لا يُشَك في أنها ستقع وستفشل، حسب قراءة متفحصة لتجارب ومعطيات النهج السياسي والتفاوضي لقيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، بينما يتواصل التعنت الإسرائيلي والتواطؤ الأميركي.

دأبت قيادة المنظمة والسلطة، ممثلة بالرئيس محمود عباس، على تأكيد التزامها بالمفاوضات سبيلاً وحيداً لتسوية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، والتزامها بمقولة العمل على تحسين شروط المفاوضات، وتصويب أسسها من داخل العملية التفاوضية نفسها، ورفض أي خيارات بديلة عن المفاوضات، أو داعمة للموقف التفاوضي، تعتمد أي شكل من مقاومة الاحتلال والاستيطان، ولو بوسائل جماهيرية سلمية. ولم تغير الحرب الإسرائيلية الإجرامية الأخيرة على غزة من قناعات الرئيس عباس وفريقه، وتعلقه بإعادة تجريب المجرّب، بمبادرات مستهلكة، لا تهدف، في حقيقة الأمر، إلى إعادة بناء المفاوضات على أسس جوهرة جديدة.

وفي المقلب الآخر، كثفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عمليات الاستيطان وتهويد القدس منذ اتفاق أوسلو، وممارسة القتل والترهيب بحق الفلسطينيين، وعدم احترام الاتفاقات الموقعة مع السلطة، وتحويلها إلى قيود تلزم الطرف الفلسطيني، من جانب واحد، بتفسيرات إسرائيلية مجحفة، ووضع شروط جديدة على الجانب الفلسطيني المفاوض، عملت واشنطن، دوماً، على إعادة إخراجها وتسويقها لفرضها على الفلسطينيين، باعتبارها جزءاً من أسس تسويةٍ، تلبي ما تسمى (المخاوف الأمنية الإسرائيلية)، وتضمن (حق إسرائيل في الوجود)، ولن يكون آخرها طلب كيري من قيادة السلطة الفلسطينية، في جولة المفاوضات أخيراً، الاعتراف بـ(الطابع اليهودي لدولة إسرائيل).

أمام التعنت الإسرائيلي ومتوالية مطالب تل أبيب، المتواطئ معها أميركياً، لم ينفع الرئيس عباس إصدار قانون يجرّم العمل المقاوم ضد إسرائيل، والامتثال الكامل للتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية، وتجديد تأكيده، في أكثر من مناسبة، أنه لن يسمح بقيام انتفاضة فلسطينية ثالثة، في أي ظرف، وأنه يتفهم أن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين غير قابل للتحقيق، لأنه (سيغرق إسرائيل)، وتعهده بعدم ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية. وهذا غيض من فيض تطميناتٍ أطلقها عباس، وذهبت أدراج الرياح الإسرائيلية والأميركية.

بمد الأمور إلى نهاياتها، لا يتمثل تشخيص المأزق التفاوضي بالنسبة للفريق الفلسطيني المفاوض فقط في الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبها في سياق المفاوضات، وفقدان البوصلة التي لا تضبطها سوى مرجعية وطنية جامعة، إنما يمثل في جزئه الرئيس باستبعاد قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية للخيارات الوطنية المتاحة، بدل الاستمرار في المراهنة العبثية على إمكانية الوصول إلى أرضية مع الجانب الإسرائيلي، وما تتيحه تلك الخيارات من أرضية تبنى عليها مفاوضات منتجة، مفتاحها دفع واشنطن إلى اتخاذ مواقف متوازنة، بدرجة مقبولة نسبياً.

واستبعاد البدائل ليس مرده عدم توافرها موضوعياً، أو عدم إمكانية العمل عليها وتحمل تكلفتها وتبعاتها، بل إلى اعتبار القيادة الفلسطينية المهيمنة أن المفاوضات وحدها هي خيارها الاستراتيجي، وإسقاطها من حساباتها أن الاحتلال الإسرائيلي تحوّل إلى احتلال غير مكلف، أضعف المفاوض الفلسطيني، وسيقود إلى مزيد من إضعافه، ولن تتغير المعادلة التفاوضية، إلا بجعل الاحتلال الإسرائيلي مكلفاً وخاسراً بالنسبة للإسرائيليين والأميركيين. وهذا غير ممكن، إلا بتفعيل كل الأشكال المتاحة لمقاومة الاحتلال، لتعديل موازين القوى، بحيث تجبر إسرائيل على القبول بحل متوازن وشامل للصراع، يستجيب لتطلعات الشعب الفلسطيني.

الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال قضية أخرى، تسقطها القيادة الفلسطينية المهيمنة من حساباتها، وهي الأهم في معادلة الصراع مع إسرائيل، فضلاً عن ثقلها الوازن في أي مفاوضات، فكعب أخيل المفاوض الفلسطيني، منذ مؤتمر مدريد خريف 1991، أنه لم يستند إلى مرجعية وطنية جامعة على أرضية توافق وطني، يفضي إلى إستراتيجية موحدة إزاء أسس وسبل تسوية الصراع بوسائل سياسية، من دون التخلي عن وسائل المقاومة الأخرى في التصدي للاحتلال الاستيطاني.

وتتضح خطورة مأزق الفريق الفلسطيني المفاوض بافتراض، ولو جدلاً، أنه نجح في التوصل إلى تسوية شاملة للصراع، كيف سيستطيع تنفيذ الالتزامات المترتبة عليه في ظل الانقسام السياسي والكياني الفلسطيني الحاد. علماً أن الانقسام لا يقف عن حد الصراع التناحري بين "فتح" و"حماس"، بل يشمل، أيضاً، اعتراضات مبدئية، تبديها فصائل فلسطينية رئيسة في منظمة التحرير، على أسس المفاوضات، والنهج التفاوضي، وقطع الطريق على تفعيل بدائل وطنية للعملية التفاوضية الفاشلة.

ومن المستبعد أن تتغير الخطة التي طرحها الرئيس عباس، أمام وزراء الخارجية العرب، مثلما لم يغير توقيعه على خمس عشرة معاهدة واتفاقية دولية في إبريل/ نيسان الماضي، من الأداء المتعثر للفريق الفلسطيني المفاوض، فهذه الخطوة، كسابقاتها، لا تندرج في إطار البحث عن بدائل وطنية استراتيجية في مقاومة الاحتلال، فعباس وفريقه التفاوضي أقرناها بالتشديد على الالتزام المطلق بخيار المفاوضات. ومن الجلي أنها كانت مدروسة بعناية، لضبط ردود الفعل الإسرائيلية والأميركية، من دون مستوى نسف المفاوضات، بصيغتها وأسسها الراهنة.

كما أن خطوات كهذه، بمحدداتها، لن تغير جوهرياً في سياق المفاوضات كساحة مفترضة في مواجهة الاحتلال، لأنها لا تفتح على الخيارات البديلة والمتاحة، بينما يمكن للسلطة الفلسطينية أن تتخذ خطوات مؤلمة للاحتلال، مثلاً لو ترافقت خطوة التوقيع على المعاهدات والاتفاقات الدولية مع قرار بإلغاء "بروتوكول باريس الاقتصادي"، الذي وضع الاقتصاد الفلسطيني في براثن تبعية كولونيالية للاحتلال الإسرائيلي، أو لو ترافقت بالإعلان عن بسط السيادة الفلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية.

يؤكد ما سبق أن انعدام البدائل لدى قيادة السلطة، أو بالأحرى استبعاد البدائل وإسقاطها من الحسابات، يصب في مصلحة سياسات الاحتلال وممارساته، ويزيد من مخاطر الاستمرار في العملية التفاوضية الفاشلة، بينما يتواصل الاستيطان الزاحف على ما تبقى من أراضي الضفة الفلسطينية، وتهويد القدس الشرقية نهائياً. ولن يكون ممكناً تصويب المفاوضات، إلا بإعادة الاعتبار للبدائل الفلسطينية المتاحة، قولاً وعملاً، ما يستدعي إعطاء أولوية لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية وجدية، وانتشال الحالة الفلسطينية من "كوما" المفاوضات العبثية، والتمسك بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، بمختلف السبل الممكنة.

B21DA34E-F1C6-4033-B3A9-0A2E40C3E094
عامر راشد

كاتب فلسطيني. يعمل في الصحافة، اصدر كتاباً باللغة الروسية "القضية الفلسطينية تاريخ وحاضر"، وكتاباً بالعربية " فلسطين.. مائة عام بحثاً عن الحرية والعدالة"، وله دراسات وأبحاث منشورة عن الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي، وقضايا فكرية.