إعادة اكتشاف مارسيل دوشان

03 نوفمبر 2014
+ الخط -

مئة لوحة ونحو مئتي رسم هي مجموع الأعمال التي جمعها "مركز بومبيدو" في باريس لتنظيم معرض لرائد الطلائع الفنية، الفنان الفرنسي مارسيل دوشان (1887 ـ 1968). مقاربة غير متوقّعة ومفارِقة لفنانٍ يُعرف بأنه أول مَن أطلق رصاصة الرحمة على فن الرسم.

نصوصٌ نقدية كثيرة كُتبت، على مرّ قرنٍ من الزمن، عن أسباب القطيعة التي سجّلها دوشان مع فن الرسم، وجميعها تُجمِع على أن السبب الأول والرئيس هو الصدمة النفسية التي ألمت به إثر رفض أصدقائه التكعيبيين مشاركته بلوحة "عارية تهبط الدرج" في "صالون المستقلّين" عام 1911. وعلى ضوء بعض أفعاله التحريضية الدادائية اللاحقة، وابتكاره مفهوم القطعة الفنية الجاهزة سلفاً (ready-made)، نُظر إلى صاحب "نبع" باعتباره الفنان الذي اغتال فن الرسم.

لكن ضمن هذه الرؤية، كيف نفسّر لوحة "الزجاج الكبير، العروس المعرّاة من قبل عازبيها" التي بدأها دوشان عام 1915 وعمل عليها حتى عام 1923، من دون أن يعتبرها منجَزة؟ عملٌ يمكن أن نقرأ فيه نكرانَ فن الرسم، وفي الوقت ذاته، إعلاءه أو السموَّ به، من خلال لوحة مستحيلة.

هذا ما دفع منظّمي معرضه الحالي إلى إعادة تناول اللوحات والرسوم التي قادت دوشان إلى إنجاز هذا العمل الملغَّز. أعمالٌ بالكاد معروفة في أوروبا، لأن معظمها استقر باكراً في "متحف فيلادلفيا للفنون"؛ ونشاهدها اليوم محاطة بالكتب والصور والمصادر العلمية والتقنية التي غرف دوشان منها خلال تلك السنوات الجوهرية والخصبة من مساره؛ ما يمنحنا مفتاحاً جديداً يساعد على ولوج وفهم عملٍ إبداعي يشكّل بطبيعته بياناً وبرنامجاً ثورياً لا سابق له.

من الرسوم الهزلية إلى "عارية تهبط الدرج"، من الرياضيات التي افتُتن بها إلى موضوع "العروس المعرّاة..."، من الأبحاث حول الأبعاد إلى أفلام إتيان جول ماراي وجورج ميلييس، ومن كراناش إلى إدوار مانيه أو أوديلون رودون، مروراً بفرانسيس بيكابيا وفرانز كوبكا؛ يسمح مسار المعرض، عبر هذه المراجع الأساسية، بمتابعة المراحل التي قادت دوشان إلى إنجاز لوحة "الزجاج الكبير" التي تُعتبر أحد أهم أعمال الفن الحديث وأكثرها سحراً.

"الملك والملكة محاطين بعُراة"، 146 × 89 سم، (1912)


وفي هذا السياق، يكشف المعرض أبحاثه الصورية، المرحلة التوحّشية من عمله، استعاراته الرمزية، استكشافاته التكعيبية، اللامعنى والدعابة اللذين يميّزان عمله، كما يكشف اهتمامه بالأدب والكلمات، وأيضاً بالعلوم البصرية والفيزيائية والميكانيكية.

لكن مهما تنوّعت حقول فضول وبحث دوشان، بقي مسعاه فنّياً، وبقي الفن، عن قناعة، شغفه الأول والأخير: "أعتقد أن الفن هو النشاط الوحيد الذي يتجلى الإنسان من خلاله كفردٍ حقيقي. بواسطته فقط، يمكن للإنسان تجاوز طبيعته الحيوانية، لأنه يقود إلى مناطق لا يطغى فيها الزمن ولا الفضاء". كتب أيضاً، عام 1964: "لطالما لفتُّ انتباه الناس إلى أن الفن سرابٌ. سرابٌ تماماً كما تتراءى واحةٌ لنا في الصحراء. وهو أمرٌ جميل جداً حتى نموت عطشاً طبعاً. لكننا لا نموت عطشاً في حقل الفن. السراب متينٌ".

بعد رحيل دوشان، اكتشفنا لوحة له بعنوان "نظراً إلى 1ـ تساقُط الماء 2ـ غاز الإنارة"، اشتغل عليها في السرّ طوال العقدين الأخيرين من حياته. عملٌ يرتبط، في طبيعته وموضوعه، بلوحة "الزجاج الكبير"، وبالتالي يفجّر نهائياً صورة صاحبه كفنانٍ معادٍ للرسم التقليدي.

وما الأعمال الأخيرة التي أنجزها، كالرسوم الإيروسية والمحفورات، سوى تحضير لهذا العمل، وبالتالي، شهادات على التماسك الكبير لمسار دوشان الذي، بسعيه إلى إعادة ابتكار فن الرسم، خطّ هذا المسار الفريد الذي يرتكز على أبحاثٍ عميقة وشكوك، وعلى التزامٍ شبه رومنطيقي بقضية الفن الحيوية ورفضٍ راديكالي للجامد فيه.

المساهمون