18 نوفمبر 2024
إشكالية التجربة الحزبية العربية
تشكل الظاهرة الحزبية إحدى أهم الظواهر التي عرفتها المنطقة العربية في ظل التجربة الاستعمارية. وعلى الرغم من استمرارها في الحياة السياسية العربية، إلا أنها لم تؤدِ الوظائف نفسها التي أدتها وتؤديها الأحزاب في التجربة الأم، ما أبقاها، إلى حد كبير، ظاهرة غريبة بالنسبة للمجتمع العربي، فقد حافظت التشكيلات الاجتماعية التقليدية على دورها في إطار هذه المجتمعات (العشيرة، القبيلة، الطائفة، العائلة...) حتى أن تجارب حزبية عديدة جاءت لتندرج في خدمة هذه التشكيلات التقليدية.
ولدت الأحزاب السياسية في التجربة الأم عند درجة معينة من تطور المجتمع لتنظيم انقساماته، وجرّها إلى خارج دائرة العنف، ما جعل التجربة الحزبية تولد في إطار مجتمع مدني، يملك من السمات ما يدعم هذه التجربة، وفي مقدمتها: استقلال المجال الاجتماعي بالنسبة للمجال السياسي، ومرونة العلاقات الاجتماعية التي تضفي على انتماء المواطنة قيمة أصلية، وتحول العلاقات الترابطية في البناء الاجتماعي من علاقات عمودية إلى علاقات أفقية، فتم إقرار التعدّدية وتداول السلطة، وحقوق الإنسان، والاختلاف، وحرية التعبير عن الرأي... إلخ، ما جعل اللعبة السياسية تقوم على قواعد وأسس واضحة، لا يشكل الإلغاء في المجال السياسي إحدى قواعدها.
حملت التجربة الحزبية العربية أثقالها من زمن الاستعمار إلى زمن الاستقلال، للتعامل مع
شروط عمل جديدة، فقد أصبحت بلدان عديدة تحكمها أحزاب وطنية، أخذت تطبق عقائدها، وهناك دول ساد فيها نظام الحزب الواحد باسم التحديث والتنمية والتقدم. حيث سيطرت على الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي باسم تحقيق مشروع التنمية والاستقلال الوطني، في مقابل إشباع حاجات المواطنين في المأكل والمسكن والتعليم والصحة، وفي الوقت نفسه، نزع تسييس المجتمع، واقتصار ممارسة السياسة على إطار واحد، ممسك بكل مفاصل المجتمع، ومنعه خارج هذا الإطار، باعتباره القائم على السلطة "متعهد التنمية". لقد أدى هذا النموذج إلى نتائج كارثية، كما الحال في الجزائر وليبيا والعراق.
أفرزت تجربة الدولة العربية الحديثة سماتٍ متناقضة مع الشعارات التي رفعتها، فلم تستطع استكمال مشروعها في الواقع الاجتماعي ـ السياسي، سلطة تستمد شرعيتها من المجتمع، لأنها تريد أن تكون فوقه، وظلت تحمل معها ظواهر نقيضة لها كالاستبداد السياسي وحكم الفرد وشخصنة السلطة بين الحاكم والدولة، ومحاولة اندماجها في الواقع الاجتماعي، بتضييق الخناق على "المجتمع المدني". وبسبب هذا التوجه، تم الحفاظ على العلاقات العمودية وتدعميها، لأنها شكلٌ متلائم مع طبيعة عمل السلطات القائمة وتوجيهاتها، فحافظت هذه المجتمعات، في بيئتها الرئيسية، على طابعها التقليدي. حيث بقيت متمسكةً بالعادات والتقاليد والانتماءات القبلية والطائفية والعشائرية، لتلعب دوراً رئيسياً في تنظيم المجتمع. لذلك، فإن عملية التحديث الظاهرية، وهي من ظواهر التغيير الاجتماعي، لم تؤدِّ سوى إلى إعادة تشكيل البنى والعلاقات البطريركية، وتعزيزها بإضفاء أشكال ومظاهر (حديثة) عليها، على حد تعبير الراحل هشام شرابي.
هذه البنية التقليدية التي أعيد إنتاجها في المجتمع بمظاهر حديثة، مترافقة مع التشوه الطبقي، إضافة إلى طبيعة السلطة السياسية، جعلت قدرة الأحزاب على التعبير عن شرائح المجتمع وطبقاته هامشية جداً ومشكوكا فيها. لأن مجمل التكوين المجتمعي يدخل في علاقات خارجة عن العلاقات الرسمية، تخترق النسيج المجتمعي، بحيث تبدو التشكيلات الاجتماعية أسيرة هذه العلاقات، إلا إذا دخلت هذه الأحزاب في النسيج التقليدي للمجتمع نفسه، وأخذت تعبر عن مصالح هذه التشكيلات (ظاهرة الأحزاب الطائفية).
في مثل تكوين تقليدي كهذا، والذي جعل دور المؤسسات الاجتماعية الحديثة ذات تأثير هامشي، يبرز دور الجيش، بوصفه القوة السياسية ذات البنية الأحدث. وفي ظل عدم قدرة الأحزاب على لعب دور سياسي مهم، يكون ملء الساحة السياسية من التشكيلات الأكثر تنظيما، والجيش هو من يملك هذه السمات. لذلك، تقدّمت الجيوش لملء الفراغ الذي شهدته المنطقة، فالمؤسسة العسكرية تربعت على عرش السلطة في المنطقة العربية، في البلدان المركزية في العالم العربي.
لذلك، لا تشكل الأحزاب الثقل الرئيسي الذي تتمتع به جماعات أخرى، كالجيش والبيروقراطية، والتي تجد جذورها القوية في تراث هذه المجتمعات، بشكلٍ لا يقارن مع الأحزاب السياسية. ومن ناحية أخرى، هناك أهمية كبرى في حقل السياسات للجماعات التي تعتمد علاقات القرابة
والعلاقات الشخصية، وهي تسهم مساهمة كبيرة في صياغة الحياة السياسية في المنطقة. وفي هذا السياق، وجدت الأحزاب إما واجهات سياسية، أو أبنية عامة تمارس الجماعات ذات البنية التقليدية أنشطتها من خلالها. كما أن هذه الجماعات تخترق، في أحيانٍ كثيرة، وتصبغ الجماعات الأكثر رسمية. والقرارات التي تعزى إلى التنظيمات الرسمية يمكن أن تكون في الواقع نتاجاً لهذه الجماعات، ما يجعل الأحزاب مجرد تجمعاتٍ فضفاضة للتكتلات التي تعكس مصالح بنية تقليدية. بذلك لا تتعدّى جذورها القشرة العليا للمجتمع. وفي داخل تلك القشرة، تكون الأحزاب مجرد أدواتٍ لذوي النفوذ والنخب الصغيرة. لذلك، لم يغير تنظيم الانتخابات المتزايد الذي جرى في المنطقة قبل انطلاق الثورات العربية شيئاً في جوهر الأحزاب، ولا في طبيعة العملية السياسية التي يسيطر عليها طرف واحد، وبقي قائما فقدان الأحزاب قدرتها السياسية على ملء الحقل السياسي، لنكتشف، مع ثورات الربيع العربي، غيابها شبه التام عن الفعل.
عدم وجود قواعد واضحة للعبة الحزبية في العالم العربي، وفقدان العملية السياسية تداول السلطة والانتماءات الأفقية التي تجعل عمل الأحزاب مجديا، جعل العمل الحزبي مأزوماً وهامشياً، ما دفع "أحزاب الهوية"، الأحزاب الإسلامية، الأحزاب الطائفية، إلى اقتحام المسرح السياسي، لتغيير قواعد اللعبة جوهرياً، على حد تعبير برتران بادي. وتتسم خاصية هذه الأحزاب بتشجيع هوية انتماء أخرى، تحل محل انتماء المواطنة، بصفتها انتماءاتٍ متجاوزة للحدود الوطنية (الهوية الإسلامية)، أو هوية جزئية (الهوية الطائفية). وعلى هذا، يختلف حزب الهوية عن غيره من الأحزاب، فمشروعُه لا يندرج في صراع تنافسي، من أجل السلطة السياسية، بقدر ما يندرج أساساً في مجهودٍ لتنشئة أخرى، وحشدٍ بديل، محبذاً هوية سياسية غير المعلنة رسمياً، ما يعني إنتاج تعبئة سياسية سلبية.
لا يتعلق فشل التجربة الحزبية العربية بأداء الأحزاب فحسب، بل يتعلق في البنية الكلية للمجتمعات العربية التي حافظت على طبيعة علاقاتها التقليدية، وإن اتخذت أشكالا "حديثة". فنجاح التجربة الحزبية يحتاج إلى مجموعة من القيم المتلائمة معها، والتي لم تدخل في نسيج المجتمع العربي، حتى بعد ثورات الربيع العربي.
ولدت الأحزاب السياسية في التجربة الأم عند درجة معينة من تطور المجتمع لتنظيم انقساماته، وجرّها إلى خارج دائرة العنف، ما جعل التجربة الحزبية تولد في إطار مجتمع مدني، يملك من السمات ما يدعم هذه التجربة، وفي مقدمتها: استقلال المجال الاجتماعي بالنسبة للمجال السياسي، ومرونة العلاقات الاجتماعية التي تضفي على انتماء المواطنة قيمة أصلية، وتحول العلاقات الترابطية في البناء الاجتماعي من علاقات عمودية إلى علاقات أفقية، فتم إقرار التعدّدية وتداول السلطة، وحقوق الإنسان، والاختلاف، وحرية التعبير عن الرأي... إلخ، ما جعل اللعبة السياسية تقوم على قواعد وأسس واضحة، لا يشكل الإلغاء في المجال السياسي إحدى قواعدها.
حملت التجربة الحزبية العربية أثقالها من زمن الاستعمار إلى زمن الاستقلال، للتعامل مع
أفرزت تجربة الدولة العربية الحديثة سماتٍ متناقضة مع الشعارات التي رفعتها، فلم تستطع استكمال مشروعها في الواقع الاجتماعي ـ السياسي، سلطة تستمد شرعيتها من المجتمع، لأنها تريد أن تكون فوقه، وظلت تحمل معها ظواهر نقيضة لها كالاستبداد السياسي وحكم الفرد وشخصنة السلطة بين الحاكم والدولة، ومحاولة اندماجها في الواقع الاجتماعي، بتضييق الخناق على "المجتمع المدني". وبسبب هذا التوجه، تم الحفاظ على العلاقات العمودية وتدعميها، لأنها شكلٌ متلائم مع طبيعة عمل السلطات القائمة وتوجيهاتها، فحافظت هذه المجتمعات، في بيئتها الرئيسية، على طابعها التقليدي. حيث بقيت متمسكةً بالعادات والتقاليد والانتماءات القبلية والطائفية والعشائرية، لتلعب دوراً رئيسياً في تنظيم المجتمع. لذلك، فإن عملية التحديث الظاهرية، وهي من ظواهر التغيير الاجتماعي، لم تؤدِّ سوى إلى إعادة تشكيل البنى والعلاقات البطريركية، وتعزيزها بإضفاء أشكال ومظاهر (حديثة) عليها، على حد تعبير الراحل هشام شرابي.
هذه البنية التقليدية التي أعيد إنتاجها في المجتمع بمظاهر حديثة، مترافقة مع التشوه الطبقي، إضافة إلى طبيعة السلطة السياسية، جعلت قدرة الأحزاب على التعبير عن شرائح المجتمع وطبقاته هامشية جداً ومشكوكا فيها. لأن مجمل التكوين المجتمعي يدخل في علاقات خارجة عن العلاقات الرسمية، تخترق النسيج المجتمعي، بحيث تبدو التشكيلات الاجتماعية أسيرة هذه العلاقات، إلا إذا دخلت هذه الأحزاب في النسيج التقليدي للمجتمع نفسه، وأخذت تعبر عن مصالح هذه التشكيلات (ظاهرة الأحزاب الطائفية).
في مثل تكوين تقليدي كهذا، والذي جعل دور المؤسسات الاجتماعية الحديثة ذات تأثير هامشي، يبرز دور الجيش، بوصفه القوة السياسية ذات البنية الأحدث. وفي ظل عدم قدرة الأحزاب على لعب دور سياسي مهم، يكون ملء الساحة السياسية من التشكيلات الأكثر تنظيما، والجيش هو من يملك هذه السمات. لذلك، تقدّمت الجيوش لملء الفراغ الذي شهدته المنطقة، فالمؤسسة العسكرية تربعت على عرش السلطة في المنطقة العربية، في البلدان المركزية في العالم العربي.
لذلك، لا تشكل الأحزاب الثقل الرئيسي الذي تتمتع به جماعات أخرى، كالجيش والبيروقراطية، والتي تجد جذورها القوية في تراث هذه المجتمعات، بشكلٍ لا يقارن مع الأحزاب السياسية. ومن ناحية أخرى، هناك أهمية كبرى في حقل السياسات للجماعات التي تعتمد علاقات القرابة
عدم وجود قواعد واضحة للعبة الحزبية في العالم العربي، وفقدان العملية السياسية تداول السلطة والانتماءات الأفقية التي تجعل عمل الأحزاب مجديا، جعل العمل الحزبي مأزوماً وهامشياً، ما دفع "أحزاب الهوية"، الأحزاب الإسلامية، الأحزاب الطائفية، إلى اقتحام المسرح السياسي، لتغيير قواعد اللعبة جوهرياً، على حد تعبير برتران بادي. وتتسم خاصية هذه الأحزاب بتشجيع هوية انتماء أخرى، تحل محل انتماء المواطنة، بصفتها انتماءاتٍ متجاوزة للحدود الوطنية (الهوية الإسلامية)، أو هوية جزئية (الهوية الطائفية). وعلى هذا، يختلف حزب الهوية عن غيره من الأحزاب، فمشروعُه لا يندرج في صراع تنافسي، من أجل السلطة السياسية، بقدر ما يندرج أساساً في مجهودٍ لتنشئة أخرى، وحشدٍ بديل، محبذاً هوية سياسية غير المعلنة رسمياً، ما يعني إنتاج تعبئة سياسية سلبية.
لا يتعلق فشل التجربة الحزبية العربية بأداء الأحزاب فحسب، بل يتعلق في البنية الكلية للمجتمعات العربية التي حافظت على طبيعة علاقاتها التقليدية، وإن اتخذت أشكالا "حديثة". فنجاح التجربة الحزبية يحتاج إلى مجموعة من القيم المتلائمة معها، والتي لم تدخل في نسيج المجتمع العربي، حتى بعد ثورات الربيع العربي.