لم يَخطر ببال علي القلِقِ، ولا ببال جميل المتعَبِ، وهما يتوقفان بسيارتيهما متتابعَين على الإشارة الضوئية الحمراء، أنّهما سيكونان ورقتَي يانصيب في يد امرأة تملك كلباً يحفظ الأرقام غيباً من الواحد حتى الثاني عشر، وتظنّ أنّ البشر ليسوا سوى حفنة من البذور في كفّها.
الاصطدام المرعب أيقظ جميلاً من إغفائة لذيذة غطّ فيها من دون أن يشعر، أثناء وقوفه في الاختناق المروري في شارع الغاردنز في ظهيرة نهار مشمس. وحين استجمع وعيه، وجد أنّ الاصطدام قد دفع سيارته بضعة أمتار إلى الأمام، فارتطمت بدورها بالسيارة المتوقفه أمامه. ووسط الصخب الرهيب الذي ساد الشارع يترجّل جميل من سيارته، ليجد أنّها قطعة من النقانق مهروسة داخل ساندويتشة.
يعيش جميل منذ ستة أشهر في سيارته، بعد أن استولت طليقته على حضانة الأولاد والبيت ونصف راتبه. وهو يقف الآن متأملاً بأسى بيته المحطم من واجهتيه الأمامية والخلفية. ويمدّ يده ليفرك فروة رأسه متسائلاً أين سيبيت في الليلة المقبلة، فيرى شاباً قوياً أحمر الوجه يترجّل من السيارة الصغيرة ويندفع نحوه بسرعة وقد هاله أن يرى دُمْيته الجديدة مهشمة المؤخرة. فيخفض جميل يده ليحمي بها وجهه ويتلقى دفشة قوية منه. وبعد أن يزيح جميلاً من طريقه، يتوجّه الشاب إلى السيارة ذات الدفع الرباعي، ويجفل لحظةً لمّا يكتشف أن السائق امرأة، فيقف أمام غطاء المحرك ويفرغ غضبه بالضرب عليه بذراعيه القويتين وهو يصرخ ويشتم فاقداً أعصابه. في تلك اللحظة ينتبه جميل بدوره إلى الآنسة الجالسة خلف عجلة القيادة.
اقرأ أيضاً: أرض القيامات
يستقلّ علي سيارة الشركة هذه لأوّل مرّة في هذا اليوم، ويشعر بالانزعاج لأن حجرتها الصغيرة لا تتناسب وجسده الضخم وذراعيه الطويلتين، ويبدو قلقه واضحاً من خلال نقرات أصابعه العنيفة على المقود الصغير. تحين منه التفاتة إلى المرآة فيرى الرجل الغافي خلفه ويحسده على برودة أعصابه؛ لحظةً ويستعيد ذهنُه التركيز في تفاصيل "البروبوزل" Proposal الذي سيقدّمه للوفد الخليجي بعد نصف ساعة في محاولة لإنقاذ شركته من الإفلاس. ويذهل حين يرتطم صدره بالمقود وينطلق بالون الأمان في وجهه. ولا يفهم كيف يمكن للسائق الذي تركه نائماً خلفه أن يصطدم به على هذا النحو العنيف، وينزل من سيارته وهو يفكر في قتله، لكنه يكتشف أن المسكين ليس سوى ضحية مثله، فيزيحه عن طريقه ويتوجه نحو السيارة المتسببة بالحادث ليجد آنسة غامضة الملامح تجلس فيها، فلا يجد غير غطاء محركها ليفجر غضبه ضرباً عليه.
تؤمن مرام بأنّ كل حادثة مهما كانت صغيرة هي رسالة إلهية ذات مغزى كبير، وهي في صبيحة هذا اليوم بعد أن أكلت برتقالتها اليومية جمعت بذورها في كفها وأحصتها فوجدت أن عددها اثنتاعشرة بذرة، وهو العدد الذي تناولت من أجله ما لا يحصى من حبات البرتقال، فأدركت أن هذا اليوم هو يوم سعدها الذي انتظرته طويلاً. وكي تعزز قناعتها بصدق الرسالة، نادت كلبها الضخم وربّتت ظهره مشجعة، ثم صفقت له مرتين وطلبت منه أن يحضر لها الكرة. انطلق الكلب إلى ركن بعيد في الصالة الفسيحة، ووثب بخفة فوق طاولة البلياردو وأمسك بفمه واحدة من الكرات المصفوفة فوقها على شكل مثلت. صفقت مرام، وعانقت الكلب حين دحرج بين قدميها الكرة التي تحمل الرقم اثني عشر. أنهت شرب قهوتها وقبّلت أمها وانطلقت وهي تدندن لحن أغنية مرحة. وها هي الآن بعد أن أنهت حصّتها البدنية في الجمنازيوم، تقود سيارتها ساهية، فتعلق عيناها بسنارة الرقم اثني عشر الذي يتصدّر لوحة الأرقام المثبتة في مؤخرة السيارة القديمة المتوقّفة أمامها، فتتجه نحوها كما يتجه حجر النرد إلى الخانة المقدورة له ويستقرّ فيها.
اقرأ أيضاً: بقايا عالم اختفى
يُلقي جميل نظرة خاطفة باتجاه السيدة المتحصنة داخل سيارتها الفارهة، فيراها تلبس غطاءً للرأس مشدوداً يحيط باستدارة وجهها، وتضع نظارة شمسية كبيرة تخفي عينيها ومعظم جبينها، ولا تكشف إلّا أرنبة أنفها الدقيقة وحمرة شفتيها البارزتين، وتشدّ بكفيها الصغيرتين على المقود بثبات، فتبدو مثل دمية خالية من التعبير. ثم ينظر إلى الشاب المنفعل ويطلب منه أن يهدئ أعصابه وهو يفكر أنّ ردة فعله على الحادث فيها الكثير من المبالغة، ويبدو أن الشاب كان ينتظر هذا الطلب فيتوقف عن حركاته العصبية، ويسكت فجأة وفمه مفتوح كأن شتيمة أخيرة عالقة في حلقه.
من خلف نظارتيها الداكنتين راقبت مرام المشهد الدائر أمامها، ورازت بعين بصيرتها الرجلين الواقفين أمام محرك سيارتها؛ الأربعيني الهادئ بقامته الهزيلة وذقنه النابتة وشعره الأشعث وملابسه المهملة، الذي يشبه كلباً مشرّداً. والثلاثيني الوقح الوسيم المتعجرف الذي لا يحسن ضبط انفعالاته ويشبه جندياً رومانياً في فيلم سينمائي. تشعر مرام ببعض الحيرة لأن حَجَرها أصاب عصفورين برمية واحدة، وعليها الآن أن تختار بسرعة واحداً منهما وتطلق الآخر، وتستدعي خبرة أمها في قراءة الإشارات، وتتذكر قولها: "أنت ولدت في الثاني عشر من الشهر الثاني عشر، وحين يتكرّر العدد يكون حاصل تكراره مئة وأربعاً وعشرين نقطة ضوئية، مما يعني أن برج سعدك يتعامد مباشرة مع هالتك الكونية، وليس عليك إلا أن تجدي الإنسان المناسب لتلقّي طاقة السعادة وإعادة إرسالها".
تنقر شرطية المرور الرشيقة بكعب جهازها اللاسلكي على نافذة السيارة، وتشير لمرام أن تحرّك سيارتها إلى يمين الشارع، وتنهمك في تصريف السيارات المزدحمة خلفها. تلتقط مرام بأذنيها المرهفتين صوت الشابة السمراء وهي ترسل تقريرها عن الحالة المرورية عبر الجهار: "من بسمة 12 إلى غرفة القيادة، حادث تتابع ثلاثي في شارع الجاردنز، تم التعامل معه ولا إصابات".
يخترق الرقم السحري أذني مرام، وتتلقفه كما يتلقّف جندي الدبابة إشارة الهجوم من دون اكتراث بالأعشاب التي ستهرسها جنازيره.
(قاص فلسطيني)
الاصطدام المرعب أيقظ جميلاً من إغفائة لذيذة غطّ فيها من دون أن يشعر، أثناء وقوفه في الاختناق المروري في شارع الغاردنز في ظهيرة نهار مشمس. وحين استجمع وعيه، وجد أنّ الاصطدام قد دفع سيارته بضعة أمتار إلى الأمام، فارتطمت بدورها بالسيارة المتوقفه أمامه. ووسط الصخب الرهيب الذي ساد الشارع يترجّل جميل من سيارته، ليجد أنّها قطعة من النقانق مهروسة داخل ساندويتشة.
يعيش جميل منذ ستة أشهر في سيارته، بعد أن استولت طليقته على حضانة الأولاد والبيت ونصف راتبه. وهو يقف الآن متأملاً بأسى بيته المحطم من واجهتيه الأمامية والخلفية. ويمدّ يده ليفرك فروة رأسه متسائلاً أين سيبيت في الليلة المقبلة، فيرى شاباً قوياً أحمر الوجه يترجّل من السيارة الصغيرة ويندفع نحوه بسرعة وقد هاله أن يرى دُمْيته الجديدة مهشمة المؤخرة. فيخفض جميل يده ليحمي بها وجهه ويتلقى دفشة قوية منه. وبعد أن يزيح جميلاً من طريقه، يتوجّه الشاب إلى السيارة ذات الدفع الرباعي، ويجفل لحظةً لمّا يكتشف أن السائق امرأة، فيقف أمام غطاء المحرك ويفرغ غضبه بالضرب عليه بذراعيه القويتين وهو يصرخ ويشتم فاقداً أعصابه. في تلك اللحظة ينتبه جميل بدوره إلى الآنسة الجالسة خلف عجلة القيادة.
اقرأ أيضاً: أرض القيامات
يستقلّ علي سيارة الشركة هذه لأوّل مرّة في هذا اليوم، ويشعر بالانزعاج لأن حجرتها الصغيرة لا تتناسب وجسده الضخم وذراعيه الطويلتين، ويبدو قلقه واضحاً من خلال نقرات أصابعه العنيفة على المقود الصغير. تحين منه التفاتة إلى المرآة فيرى الرجل الغافي خلفه ويحسده على برودة أعصابه؛ لحظةً ويستعيد ذهنُه التركيز في تفاصيل "البروبوزل" Proposal الذي سيقدّمه للوفد الخليجي بعد نصف ساعة في محاولة لإنقاذ شركته من الإفلاس. ويذهل حين يرتطم صدره بالمقود وينطلق بالون الأمان في وجهه. ولا يفهم كيف يمكن للسائق الذي تركه نائماً خلفه أن يصطدم به على هذا النحو العنيف، وينزل من سيارته وهو يفكر في قتله، لكنه يكتشف أن المسكين ليس سوى ضحية مثله، فيزيحه عن طريقه ويتوجه نحو السيارة المتسببة بالحادث ليجد آنسة غامضة الملامح تجلس فيها، فلا يجد غير غطاء محركها ليفجر غضبه ضرباً عليه.
تؤمن مرام بأنّ كل حادثة مهما كانت صغيرة هي رسالة إلهية ذات مغزى كبير، وهي في صبيحة هذا اليوم بعد أن أكلت برتقالتها اليومية جمعت بذورها في كفها وأحصتها فوجدت أن عددها اثنتاعشرة بذرة، وهو العدد الذي تناولت من أجله ما لا يحصى من حبات البرتقال، فأدركت أن هذا اليوم هو يوم سعدها الذي انتظرته طويلاً. وكي تعزز قناعتها بصدق الرسالة، نادت كلبها الضخم وربّتت ظهره مشجعة، ثم صفقت له مرتين وطلبت منه أن يحضر لها الكرة. انطلق الكلب إلى ركن بعيد في الصالة الفسيحة، ووثب بخفة فوق طاولة البلياردو وأمسك بفمه واحدة من الكرات المصفوفة فوقها على شكل مثلت. صفقت مرام، وعانقت الكلب حين دحرج بين قدميها الكرة التي تحمل الرقم اثني عشر. أنهت شرب قهوتها وقبّلت أمها وانطلقت وهي تدندن لحن أغنية مرحة. وها هي الآن بعد أن أنهت حصّتها البدنية في الجمنازيوم، تقود سيارتها ساهية، فتعلق عيناها بسنارة الرقم اثني عشر الذي يتصدّر لوحة الأرقام المثبتة في مؤخرة السيارة القديمة المتوقّفة أمامها، فتتجه نحوها كما يتجه حجر النرد إلى الخانة المقدورة له ويستقرّ فيها.
اقرأ أيضاً: بقايا عالم اختفى
يُلقي جميل نظرة خاطفة باتجاه السيدة المتحصنة داخل سيارتها الفارهة، فيراها تلبس غطاءً للرأس مشدوداً يحيط باستدارة وجهها، وتضع نظارة شمسية كبيرة تخفي عينيها ومعظم جبينها، ولا تكشف إلّا أرنبة أنفها الدقيقة وحمرة شفتيها البارزتين، وتشدّ بكفيها الصغيرتين على المقود بثبات، فتبدو مثل دمية خالية من التعبير. ثم ينظر إلى الشاب المنفعل ويطلب منه أن يهدئ أعصابه وهو يفكر أنّ ردة فعله على الحادث فيها الكثير من المبالغة، ويبدو أن الشاب كان ينتظر هذا الطلب فيتوقف عن حركاته العصبية، ويسكت فجأة وفمه مفتوح كأن شتيمة أخيرة عالقة في حلقه.
من خلف نظارتيها الداكنتين راقبت مرام المشهد الدائر أمامها، ورازت بعين بصيرتها الرجلين الواقفين أمام محرك سيارتها؛ الأربعيني الهادئ بقامته الهزيلة وذقنه النابتة وشعره الأشعث وملابسه المهملة، الذي يشبه كلباً مشرّداً. والثلاثيني الوقح الوسيم المتعجرف الذي لا يحسن ضبط انفعالاته ويشبه جندياً رومانياً في فيلم سينمائي. تشعر مرام ببعض الحيرة لأن حَجَرها أصاب عصفورين برمية واحدة، وعليها الآن أن تختار بسرعة واحداً منهما وتطلق الآخر، وتستدعي خبرة أمها في قراءة الإشارات، وتتذكر قولها: "أنت ولدت في الثاني عشر من الشهر الثاني عشر، وحين يتكرّر العدد يكون حاصل تكراره مئة وأربعاً وعشرين نقطة ضوئية، مما يعني أن برج سعدك يتعامد مباشرة مع هالتك الكونية، وليس عليك إلا أن تجدي الإنسان المناسب لتلقّي طاقة السعادة وإعادة إرسالها".
تنقر شرطية المرور الرشيقة بكعب جهازها اللاسلكي على نافذة السيارة، وتشير لمرام أن تحرّك سيارتها إلى يمين الشارع، وتنهمك في تصريف السيارات المزدحمة خلفها. تلتقط مرام بأذنيها المرهفتين صوت الشابة السمراء وهي ترسل تقريرها عن الحالة المرورية عبر الجهار: "من بسمة 12 إلى غرفة القيادة، حادث تتابع ثلاثي في شارع الجاردنز، تم التعامل معه ولا إصابات".
يخترق الرقم السحري أذني مرام، وتتلقفه كما يتلقّف جندي الدبابة إشارة الهجوم من دون اكتراث بالأعشاب التي ستهرسها جنازيره.
(قاص فلسطيني)