إسماعيل وقحطان: وهم الجذر العربي

08 نوفمبر 2015
كتابة حميرية في سد مأرب (تصوير: دي أغستوني)
+ الخط -

وقع المثقف العربي منذ وقت مبكّر في فخّ معرفي لا يُمكن الفكاك منه، ولم يسقط وحيداً، بل قاد خلفه ذهنية المجتمعات العربية أجمعها، منتجاً بذلك أزمة عسيرة لا نلمس خطرها إلا في ساحات المعارك ونحن نقاتل دفاعاً عن فكرة ليس لها أصل في التاريخ والحقيقة والواقع.

يتمثّل ذلك الفخ في ما يُعرف بسلالة العرب وجذورهم؛ إذ أخذت أزمة الهوية العربية تتوسّع مع تمدّد الدولة الإسلامية ودخول مختلف الأعراق والأمم في الدين الإسلامي، حيث راح المفكر والفقيه العربي يبحث من جديد في جذوره، ويُنتج حولها حكاية تُثبت أنه ابن الأرض التي ينتمي إليها، وابن الديانة التي يطرحها كسلطة حضارية جديدة.

لذلك، ظهر ما يُعرف بالأصول العربية، وحكاية العرب العاربة والمستعربة والبائدة، وما نُسج حولها من روايات عن انتسابنا للنبي إسماعيل وقحطان بن عابر، فلم يتوقف فقيه وعلامة عند التاريخ العربي منذ القرن الثاني الهجري، إلا وراح يروي حكاية تكوّن السلالة العربية، ويتحدّث بصيغة الشاهد على الأحداث، فيؤكد أن العرب البائدة لم يبقَ من ذكرها شيء وهم أقوام عاد وثمود وجرهم الأولى، والعاربة وهم أبناء قحطان الذين ينتمون في الجغرافيا إلى اليمن، والعرب المستعربة الذين يعودون إلى جدهم إسماعيل بن النبي إبراهيم.

شكّل هذا الطرح حقيقة في الذهنية العربية وبات من البديهي الحديث عن جذور العرب في هذا السياق، ولم يعد ذلك قابلاً للتساؤل من جديد، وكأن فقهاء القرن الثاني والثالث الهجري كانوا مُبعثين زمنياً إلى مئات وآلاف السنين الماضية وشاهدين بأم أعينهم على تلك الحكايات التي نتناقلها اليوم.

إنّ تساؤلاً وحيداً يكفي لتنهار معرفتنا تلك، وتصبح خارجة عن المنطق والتاريخ: هل يمكن لرجل واحد أن ينتج سلالة كاملة من دون فضاء ومجتمع ينتمي إليه أصلاً؟ ولماذا نتوقّف عند هذا الفرد ونبدأ بالتأريخ من عنده، أليس هو أيضاً له أب وجدّ وقبيلة؟

ثم لماذا لا نعثر على سلالات وأقوام أخرى من أولئك الذي عاشوا في فترته، أيعقل أنهم أُبيدوا في زلزال وظلّ هو وأبناؤه وحدهم الناجين؟ ليجيب المنطق على تلك التساؤلات، نصبح أمام فراغ شاسع، ووهمٍ لا يمكن احتماله يدّعي أصل السلالة العربية، وجدّينا قحطان وإسماعيل، وبالتالي نصبح أمام هوية منزوعة الجذور.

ثمّة روايات كثيرة تكرّس خرافة أصل العرب، إذ يروي "تاريخ الطبري" ما نصّه: "حدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولد لإسماعيل بن إبراهيم اثنا عشر رجلاً، وأمّهم السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي".

قال: "وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون ثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدر نشر الله العرب، ونبّأ الله عز وجل إسماعيل". نمر على هذا النص ونسعد بجذورنا، ولا نتساءل ولو لدقائق، أين عمرو الجرهمي والد زوجة إسماعيل، ألم يكن له أبناء وإخوة وأقارب؟ لماذا لم ينجبوا سلالة مثلما فعل جدّنا إسماعيل؟

نتابع الرواية ذاتها بتفاصيل أكثر، تكشف ما قبل ولادة أبناء إسماعيل في كتاب "أخبار الزمان" للمسعودي، إذ يروي ما نصّه: "أما إسماعيل عليه السلام، فقطن الحرم ونبع له زمزم بأمر الله تعالى، ونبّأه الله وأرسله إلى العماليق وجرهم وقبائل اليمن، فنهاهم عن عبادة الأوثان، فآمنَتْ به طائفة منهم وكفر أكثرهم، وغلب على الحرم وتزوج في خيرهم".

ويتابع: "كان الناس بعد الطوفان مجتمعين بمكان واحد بأرض بابل ولغتهم السريانية ثم تفرقوا فسلك قحطان وعاد وثمود وعملاق وطسم وجديس طريقاً، وألهمهم الله تعالى هذا اللسان العربي فساقتهم الأقدار إلى اليمن فسارت عاد إلى الأحقاف ونزل ثمود ناحية الحجر ونزل جديس اليمامة، ثم شخص طسم فنزل اليمامة مع جديس، ثم شخص عملاق فنزل أرض الحرم، وسار ضخم أرم فنزل الطائف، وسار جرهم فنزل مكة، فهؤلاء ولدهم ونسلهم يسمون العرب العاربة".

لا يشكّل ذلك خطراً على السلالة العربية وأصول دمائها، فأي باحث في تكوّن الحضارات والأمم يدرك أن البشر يتلاحمون ويتعاونون لبناء حضارتهم، إنما يشكّل ذلك خطراً على ذهنية الفرد العربي، وما أنتجته من هويات تراكمية كوّنت ما نحن عليه اليوم من صراع.

فالحديث عن جذور السلالة العربية مثّل أوّل مفاتيح الخروج من هوية الدين الجديد الذي فتح ذراعيه على قارتين جغرافيتين وراح يماهي بين كل من يقطن عليها، حيث شكّل الانتساب إلى السلالة العربية، لاحقاً، خلافاً على السلطة، ثم تلاه حالات شرخ في بنية المجتمع ظلّت تأخذ شكلها حتى صارت هوية جديدة منفصلة.

ساهم في ذلك ضعف الهوية الدينية مع ضعف الدولة الإسلامية، فلم نكن أمام هويات متعدّدة لو لم ينتج العرب عبر تاريخ من السلطات السياسية والدينية ما بدأ بوهم الجذر العربي، وأبناء إسماعيل وقحطان.

إن كان ذلك يفتح باباً على شيء، فإنه بلا شك يفتح مصراعي الأسئلة على ما نعيشه اليوم من هويات متناحرة، تستعين بالتاريخ لتؤكد سلطتها على الحاضر، وهذا ما لم يستطع العقل العربي الفكاك منه طوال ألفي عام من عمره، بل على العكس؛ ظلت ذهنية المثقف ذاتها عالقة فيه وتكرّسه مرحلة تلو أخرى، حتى بتنا أمام كل هذا الخراب.

المساهمون