إسلام بروتستانتي: ألبانيا وحركتها القومية

11 يناير 2015
معهد الدراسات الألبانية، بريشتينا، 2014
+ الخط -
في العقود الأخيرة ثمة طفرة في المصطلحات التي برزت في بيئات معرفية مختلفة، ثم ما لبثت أن وردت إلى اللغة العربية من خلال الترجمة، وصارت قيد التداول، وبعضها قد يبدو مستغرباً للوهلة الأولى. ومن هذه المصطلحات يبرز مصطلح "الإسلام البروتستنانتي" الذي تقوم عليه دراسة مملي كراسنيتشي "الجمعية الإنجيلية البريطانية والبكتاشية 1814 ـ1897"، وهي في الأصل أطروحة دكتوراه، ومؤلفها رئيس قسم التاريخ في معهد الدراسات الألبانية. 

الكتاب يحمل مقاربة جديدة في التاريخ الألباني العام، أي الذي يشمل الألبان في البلقان الذين يتوزعون الآن على خمس دول مجاورة (ألبانيا وكوسوفو ومكدونيا وصربيا والجبل الأسود)، وبالتحديد في فهم الحركة القومية الألبانية التي تأخرت عن غيرها في البلقان، بسبب إشكالية الدين والقومية. فالألبان، وبعد قرون من الحكم العثماني، كانوا قد أصبحوا في غالبيتهم مسلمين تعتمد عليهم الدولة العثمانية في الإدارة والجيش، بينما كانت الأقلية المسيحية (الكاثوليكية والأرثوذكسية) تشعر بالتهميش، وتتطلع إلى الجوار في انتظار أن تتخلص من الحكم العثماني. ومن هنا كان الأمر يحتاج إلى فكرة أو رابطة تجمع الطرفين (المسلمين والمسيحيين) في موقف موحد إزاء الدولة العثمانية. وكان مثل هذا التطور مهما جدا وملهما لبعض المسلمين في الدولة العثمانية، حتى إن ساطع الحصري (أبو القومية العربية لاحقا) حين خدم في ولاية قوصوه في كوسوفو خلال 1904-1908 تعرّف عن كثب على الفكرة القومية، حين شاهد مسلمين (ألبانا) يقاتلون مسلمين (عثمانيين) لأجل القومية، وليس الدين.

وما كان لهذا الانعطاف الكبير الذي حصل مع الألبان عام 1878 أن يحصل، بحسب المؤلف، لولا هذين العاملين اللذين وردا في عنوان الكتاب: الجمعية الإنجيلية البريطانية والبكتاشية، فكلاهما لعب دورا حيويا في تبلور القومية الألبانية.

تُنسب البكتاشية إلى الحاج ولي بكتاش الذي جاء إلى الأناضول في القرن الثالث عشر، ولكن طريقته التي تُنسب له تحولت مع الزمن إلى طائفة دينية هجينة تحمل عناصر شامانية من آسيا الوسطى وعناصر إسلامية ومسيحية جعلها تنتشر بسرعة أكثر بين الألبان المسيحيين. وعلى رغم المكانة التي احتلتها هذه الطائفة في الجيش الإنكشاري، إلا أنها عانت بدورها من تصفية السلطان محمود الثاني للجيش الإنكشاري في 1826، وتحولت إلى المعارضة في الأطراف، ومن ذلك ألبانيا التي أخذت تنتشر فيها التكايا البكتاشية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتتحول إلى مراكز لنشر اللغة والأدب والأفكار القومية المعارضة للحكم العثماني.

يرى المؤلف أن البكتاشية تمثل "الإسلام البروتستانتي"، لجهة تركيزها على التواصل المباشر بين الإنسان والله، وتمجد أيضا قيمة العمل، وينتهي إلى أن البكتاشية بذلك كانت "تمثل القيم الأوروبية الحضارية، وتزعّمت النهضة القومية الألبانية". وحسب المؤلف، فإن هذا التشابه قد لفت نظر ممثلي الجمعية الذي جاؤوا إلى ألبانيا وكتبوا في تقاريرهم إلى المركز يتحدثون عن البكتاشيين، بوصفهم "البروتستانت المسلمين".

وفي هذا السياق يستدعي المؤلف الدور الكبير الذي لعبه آباء البكتاشية في المناطق الألبانية والجيل الجديد من المفكرين والحركيين والشعراء (نعيم فراشري وسامي فراشري) الذين كان لهم دورهم في بروز الحركة القومية الألبانية. وسرعان ما وجدت هذه الحركة نفسها في صدام عسكري وسياسي مع الإدارة العثمانية، بسبب مطالبها بالحقوق الثقافية للألبان (الحق في التعلم والنشر بالألبانية) وصولا إلى المطالبة بتوحيد الألبان في ولاية واحدة تتمتع بالحكم الذاتي، وهو ما توج باستقلال ألبانيا عن الدولة العثمانية في 1912، لتكون بذلك أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة. وبسبب انتشارها الواسع آنذاك في ألبانيا الجديدة (حوالى خُمس السكان)، فقد لعبت البكتاشية دورها أيضا في تبني العلمانية في دستور 1914، وبذلك كانت ألبانيا أول دولة بغالبية مسلمة تتبنى العلمانية. ومع استقرار ألبانيا بحدودها الجديدة، وقيام مصطفى كمال أتاتورك بإقفال التكايا البكتاشية وغيرها في تركيا في 1926، أصبحت تيرانا مقرّ شيخ مشايخ هذه الطائفة في العالم، وبقيت كذلك حتى وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم في 1945.

وربما من المهم للقراء العرب معرفة أن أحمد سري بابا شيخ الطريقة البكتاشية في القاهرة، التي أصبحت لها مكانة مهمة خلال حكم أسرة محمد علي، قد بادر آنذاك إلى دعوة بعض شيوخ البكتاشية من خارج ألبانيا لعقد مؤتمر في 1949 يكرّس القاهرة مركزا للطريقة البكتاشية في العالم عوضا عن تيرانا. ومع أن شيخ الأزهر حسنين محمد مخلوف أصدر فتوى عن البكتاشية بهذه المناسبة يقول في نهايتها "لا نعدّهم من الصوفية، ولا من أهل السنة والجماعة، ولا نرى أن تعترف مصر بهم"، إلا أن مصر أصبحت مركزا للطريقة البكتاشية إلى ثورة 1952 التي أنهت حكم أسرة محمد علي وقلّصت الوجود الألباني في مصر، بما في ذلك هذه التكية التي أقفلت في 1962.

وأخيرا لا بد من القول إنه على الرغم من الحماس الذي يبديه المؤلف لدور البروتستانتية والبكتاشية في الحركة القومية الألبانية التي أفضت إلى إعلان الاستقلال في 1912 عن الدولة العثمانية، إلا أن الكتاب صدر في وقت يكشف فيه الإحصاء الأخير 2014 عن تراجع كبير لمكانة "الإسلام البروتستانتي" في ألبانيا لصالح الإسلام السني والكاثوليكية والأرثوذكسية.

*كاتب كوسوفي/ سوري
المساهمون