إسرائيل ووَهْمُ "السلام"

13 اغسطس 2014

"إن كنت ترفض المقاومة الفلسطينيّة،فعن أيّ سلام تتحدث؟"(11 سبتمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

يروّج ثلة من الكُتّاب السعوديين والعرب تصوراً معيناً عن فلسطين المحتلة. يرى هؤلاء أن دولة إسرائيل جزء من "الواقع"، ولذلك، تعد مقاومتها ضرباً من الخيال. ليس هذا فحسب، بل يرون المقاومة عملاً "غير أخلاقي"، لأنه ينتج قتلى وجرحى وضحايا على الجانب الفلسطيني. ولذلك، الحل العقلاني لدى هؤلاء هو التصالح مع "الواقع"، والسعي نحو السلام مع إسرائيل، وهذا السلام يجب أن "يُنتزع انتزاعاً" من إسرائيل، على حد قول أحد حمائم السلام الذين ينقدون فكرة المقاومة في الصحف الإقليمية.

تقوم هذه الحجة على ثنائية زائفة، هي الواقع/الوهم، فالمقاومة محض وهم، بينما الواقع يفرض السعي نحو السلام. لم أرَ طرحاً لأحد هؤلاء، يوضح لنا كيف سيتم هذا السلام المزعوم، بل يكتفون بترديد الشعارات الرنّانة التي يفترض أنها تعكس رهافة قلوبهم الرحيمة، وتنوّر عقولهم. لكن، هل السلام فعلاً "واقع" أم أنه عين الوهم؟ لو قرر كل مقاوم للاحتلال الصهيوني أن يضع سلاحه، ويتجه إلى طاولة المفاوضات، فأي سلام سنرى على أرض الواقع؟

كانت هناك مفاوضات سلام بالفعل، مبنية على معاهدة أوسلو عام ١٩٩٣، وعلّق، حينها، أمثال الراحل إدوارد سعيد على فشل عملية السلام تلك: "تنازلت القيادة الفلسطينية، ولأول مرة في التاريخ الفلسطيني الحديث، لا عن حق تقرير المصير فقط، بل وعن القدس وقضية اللاجئين، حيث أرجأت هذه الأمور مجتمعةً إلى مفاوضات المرحلة النهائية غير المحدودة الشروط. كذلك تم قبول تقسيم الشعب الفلسطيني الذي ناضلت قواه منذ عام 1948 من أجل الحفاظ على وحدته، إلى سكان الأراضي المحتلة، يتم التعامل معهم داخل إطار عملية السلام، وآخرين، وهم يمثلون حوالي 55 في المائة من الفلسطينيين، تتجاهلهم "عملية السلام" هذه.

وها نحن نشهد، الآن، ولأول مرة في القرن العشرين، حركة تحرر وطني تفرط في إنجازاتها الضخمة، وتقبل التعاون مع سلطة احتلال، قبل أن تجبر هذه السلطة على الاعتراف بعدم شرعية احتلالها الأراضي بالقوة العسكرية".

ولم تتوقف تلك التنازلات التي قدمتها القيادات الفلسطينية، بل أتت اتفاقية أوسلو الثانية لتوضح المنهج الإسرائيلي، كما يبين المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية إيلان بابيه: "سيستمر توظيف خطاب السلام، وفي الوقت نفسه، سيتم فرض واقع على الأرض، يتم فيه حصر السكان الأصليين في مناطق محدودة، بينما تستولي إسرائيل على باقي الأراضي". 

قسمت معاهدة أوسلو الثانية الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق، واحدة فقط هي التي يتمتع فيها الفلسطينيون بقدر محدود من الحكم الذاتي، وأوضحت الانتفاضة الثانية أن الفلسطينيين لم يقبلوا السياسة الإسرائيلية القائمة على التقسيم والتحكم، أي السياسة الناتجة من اتفاق "أوسلو". تبخرت البقية الباقية من أوهام ذلك الاتفاق مع حكومتي شارون وأولمرت، حيث أضحى واضحاً أن إسرائيل أوّلت "الحكم الذاتي" المنصوص عليه في أوسلو على أنه مجرد تحويل أجزاء من غزة والضفة الغربية إلى معازل (ghettoes)، مع استمرار سياسات التهجير والاستيطان والحصار.

بالنظر إلى إحصائيات متعلقة بالاستيطان، نجد أن المستوطنين زادوا إلى أكثر من الضعف، حيث كانوا يبلغون قبيل اتفاق أوسلو ٢٣٢ ألف مستوطن، وهم يزيدون على النصف مليون اليوم، ويزيدون بمعدل 3.5٪ كل عام. وشهدت الأعوام السبعة التي تلت معاهدة أوسلو (١٩٩٣-٢٠٠٠) أكبر زيادة في الاستيطان، حيث ارتفع عدد المستوطنين بنسبة ٤٢٪ (١١١ ألف مستوطن)، وهي نسبة لم تشهدها الأراضي المحتلة قبل عملية السلام.

هذا يشير إلى أن مفاوضات "السلام" هي، في الواقع، وسيلة لإخضاع المقاومة، وتسهيل الاستيطان الذي كما وصفه وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جيمس بيكر، "تغيير الواقع والظروف على الأرض" من الجانب الإسرائيلي. إسرائيل تريد "تغيير واقع" غزة والضفة الغربية، لتضمها لدولتها. هذا هو "الواقع" الذي يريد بعضنا قبوله والتعايش معه.

و الآن، وبعد هذا العرض التاريخي المبسط لعملية "السلام" التي مضى على ميلادها أكثر من عشرين عاماً، لعل أحد حمامات السلام الذين ينددون بالمقاومة الفلسطينية، ليل نهار، عبر وسائل الإعلام العربية، لعل أحد هؤلاء الذين تنفرط قلوبهم بالمشاعر الإنسانية الجياشة، ويرون أن المقاومة مجرد شعارات تُرفع، لعل أحد هؤلاء "العقلانيين" الذين يريدون منّا أن نرضخ لـ "الواقع"، لعل أحد هؤلاء الذين يهمهم أن يظهروا بمظهر الإنسان العصري المسالم النابذ للعنف بكل أشكاله، حتى حين يكون مقاومةً للمحتل، لعل أحد هؤلاء، أصحاب القلوب الرحيمة الذين يزعمون أنهم يريدون مصلحة الشعب الفلسطيني، وليس صاحب السلطة، أو الرجل الأبيض، لعل أحد هؤلاء الأبواق يفيدنا: إن كنت ترفض المقاومة الفلسطينية، فعن أي "سلام" تتحدث؟

FA512B5D-FBF8-42E2-8A58-4C8B4389E808
طارق الحيدر

كاتب سعودي