تستنفر المستويات السياسية والأمنية الاسرائيلية قواها، بغية التأثير على مضامين الاتفاق النهائي المنتظر بين إيران والدول الغربية، بشأن مستقبل برنامج طهران النووي، الذي يمكن التوصل إليه بحلول منتصف يونيو/حزيران المقبل.
وترى تل أبيب أن أي اتفاق نهائي مع إيران يجب أن يشمل وقف عمليات تخصيب اليورانيوم بشكل كامل، وتفكيك المفاعل الذري في "بوردو"، وإغلاق مفاعل "آراك" المتخصص في إنتاج البلوتونيوم، إلى جانب مصادرة كل ما قامت إيران بتخصيبه من يورانيوم، حتى ذلك الذي خُصِّب بنسب منخفضة. وتدّعي إسرائيل أن إيران تمتلك، حالياً، ما يكفي من اليورانيوم المخصب لتركيب بين 6 و7 قنابل ذرية؛ وعلاوة على ذلك، تسعى دولة الاحتلال إلى فرض نظام رقابة مشددة على المنشآت النووية الإيرانية، والسماح بجولات تفتيش للمراقبين الدوليين بدون تقييد وبشكل يومي.
ولا تقتصر مظاهر الاستنفار الاسرائيلي على تكثيف التنسيق مع الولايات المتحدة، فحسب، والذي بلغ أوجه بالزيارة التي تقوم بها مستشارة الأمن القومي الأميركي، سوزان رايس، إلى تل أبيب، بل يتعداه إلى تكثيف الاتصالات التي تجريها الدولة العبرية مع الدول المشاركة في المفاوضات مع إيران، وعلى وجه الخصوص روسيا والصين. وقد أجرى رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، اتصالاً هاتفياً مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لجس نبضه إزاء موقف روسيا من الاتفاق المرتقب، ولا سيما في ظل تخوف تل أبيب من أن يفضي الخلاف الروسي الغربي بشأن الأزمة الأوكرانية، إلى تبني موسكو مواقف محابية لإيران، رداً على العقوبات التي يفرضها الغرب على الروس.
ويطالب المسؤولون الاسرائيليون الدول العظمى، باستنساخ "النموذج الليبي" في التعاطي مع البرنامج النووي الإيراني. وكانت الولايات المتحدة قد توصلت، مع ليبيا عام 2003، إلى اتفاق يقضي بتفكيك برنامج طرابلس النووي نهائياً، مع العلم أن العقيد معمر القذافي، هو الذي بادر للتوصل لهذا الاتفاق.
وفي الوقت الذي بلغت فيه المفاوضات النووية مراحل متطورة، تعكف تل أبيب على استراتيجية دعائية تحاول من خلالها التقليل من أهمية أي تنازل تقدمه إيران، في مسعى لدفع طهران لتقديم تنازلات أكثر. فعندما أعلنت إيران، الأسبوع الماضي، أنها تخلصت من نصف كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة، سارعت تل أبيب إلى القول إن الحديث يدور عن تنفيذ تعهد التزمت به طهران في اتفاق جنيف المؤقت، في مقابل تخفيف العقوبات، ولا يمكن النظر إليه على أنه مؤشر على مرونة إيرانية.
وتقدر اسرائيل أن الاستراتيجية التفاوضية الإيرانية تهدف للحفاظ على الإنجازات التي حققها المشروع النووي حتى الآن، وتقليص مستوى التنازلات الذي يمكن أن تقدمها طهران، في ظل إعطاء الانطباع بأنها مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية.
ويرى رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق، رئيس "مركز أبحاث الأمن القومي"، عاموس يادلين، أن إيران ستحرص على الحفاظ على المسارات التي تضمن في النهاية تطوير السلاح النووي، سواء عبر تخصيب اليورانيوم أو من خلال إنتاج البلوتونيوم.
يشار إلى أن أبرز دواعي القلق الإسرائيلي من الاتفاق المحتمل، هو الانطباع الذي تولد لدى النخبة الحاكمة في تل أبيب، بأن الاتفاق النهائي سيضفي شرعية دولية على مكانة إيران كـ"دولة على حافة قدرات نووية"، وهو ما تعارضه إسرائيل بشدة. ويرى الإسرائيليون أن الغرب يميل بقوة، في الاتفاق النهائي، للموافقة على تقليص العمل في مفاعل "أراك" لإنتاج البلوتونيوم، وليس إغلاقه، وهو الذي ترى تل أبيب أن بناءه هو أوضح مؤشر على الطابع العسكري للبرنامج النووي الإيراني.
إسرائيل قلقة من التسريبات التي تؤكد وجود توافق بين إيران والدول الكبرى، على تقليص كمية انتاج البلوتونيوم في "أراك"، بشكل تلتزم فيه إيران بإنتاج كليوغرام واحد من البلوتونيوم في العام، بدلاً من ثمانية كيلوغرامات، كما هو حاصل حالياً (جيروزالم بوست، 30-4-2014).
وعلى الرغم من مواقف تل أبيب الحادة، واستثمارها جهوداً سياسية ودبلوماسية هائلة، في مسعاها لإقناع الدول العظمى بتفكيك كامل للمشروع النووي الإيراني، فإن الكثيرين، في تل أبيب، يرون إن الاستراتيجية الاسرائيلية لإحباط المشروع النووي الإيراني قد فشلت فشلاً ذريعاً، بدليل توجه المجتمع الدولي للتسليم بإيران كـ "دولة على حافة قدرات نووية". وبحسب هذه النخب، فإن الاتفاق النهائي سيتضمن ثلاثة بنود أساسية، وهي: إلزام إيران بتخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم في منشآتها النووية، ومواصلة التخلص من اليورانيوم الذي تم تخصيبه بنسبة 20 في المئة، وفرض نظام رقابة دولي صارم وغير مسبوق على المنشآت النووية، لمنع الإيرانيين من تجاوزه، مقابل رفع العقوبات عنها.
وتنطلق نخب إسرائيلية كثيرة من افتراض مفاده بأن الغرب المنهك، والذي يواجه بؤر تأزم عديدة، لا يأخذ بعين الاعتبار فتح مواجهة عسكرية مع إيران، وهو ما يدفعه للتوافق معها بشأن برنامجها النووي، وهي ترى أن الحرب السرية التي شنتها إسرائيل ضد البرنامج النووي الإيراني، على مدى نصف عقد من الزمن، والتي تضمنت تصفية علماء ذرة إيرانيين، وشن حرب إلكترونية صاخبة، قد فشلت بشكل مدوٍّ في لجم المشروع النووي الإيراني.
ويصل الخبير في قضايا "الأمن القومي" الإسرائيلي، يوسي ميلمان، وكثيرون غيره، إلى استنتاج مفاده بأن إسرائيل ستسلم، في النهاية، بتحول إيران إلى "دولة على حافة قدرات نووية"، مقابل ضمان توفر منظومة رقابة دولية صارمة على منشآتها النووية.
فجّر الجدل الدائر في إسرائيل، بشأن البرنامج النووي الإيراني، أسئلة أساسية وجوهرية، وفي مقدمتها السؤال التالي: هل يشكل البرنامج النووي الإيراني، حقاً، تهديداً وجودياً، كما يزعم نتنياهو؟ أم أن الأخير وظف هذا الزعم بغية التسويق لخطاب سياسي يعزز من خلاله مكانته الداخلية؛ ويرى كثيرون، في إسرائيل، أن نتنياهو بالغ في التركيز على خطورة البرنامج النووي لأهداف ولدواع سياسية داخلية.
هكذا، يرى كثيرون أنّ تل أبيب قد تكتفي، في النهاية، بالممكن، وستغض الطرف عن المأمول، في ظل الواقع الدولي والإقليمي السائد.