إسرائيل ديموغرافياً في 2014
تصدر مؤسسات في إسرائيل، بين فترة وأخرى، تقارير تصف فيها اتجاهات التطور الديموغرافي والعوامل المؤثرة فيه، وخصوصاً الهجرة ومنابعها. وفي هذا السياق، أفاد تقرير مشترك، صدر، أخيراً، عن الوكالة اليهودية ووزارة الهجرة الإسرائيلية، بأن عدد المهاجرين اليهود القادمين إلى (إسرائيل) خلال عام 2014 سجل أعلى مستوياته منذ عشر سنوات، إذ بلغ 26500 يهودي، في حين لم يكن يتعدى 20 ألف مهاجر في السنة الواحدة في السنوات الماضية.
التسعينيات "الذهبية"
تؤكد دراسات وبحوث أن عقد التسعينيات من القرن الماضي كان "العقد الذهبي" بامتياز للهجرة اليهودية، فقد شهد كثافة في هجرة يهود العالم باتجاه فلسطين المحتلة، وخصوصاً من دول الاتحاد السوفييتي السابق، ووصل مجموع المهاجرين اليهود من 1991إلى 2000 إلى نحو 76 ألفاً في السنة الواحدة، الأمر الذي يشي بتراجع أرقام الهجرة في العام المنصرم 2014 مقارنة بعقد التسعينيات، بنحو 50 ألف مهاجر يهودي في العام. ويعود ذلك إلى عدم وجود عوامل قوية طاردة من الدول التي يتركز فيها غالبية يهود العالم، وخصوصاً في أميركا وأوروبا وحتى في البرازيل، ناهيك عن عدم وجود عوامل جذب جيدة. ولهذا، تسعى الدوائر الإسرائيلية إلى فتح قنوات دبلوماسية وسياسية، وتهيئة ظروف لجذب مزيد من يهود آسيا وإفريقيا. وكانت توصيات مؤتمرات هرتسيليا السابقة قد أكدت على ضرورة العمل من أجل رفع أرقام الهجرة اليهودية باتجاه (إسرائيل)، وتخصيص مزيد من الموارد المالية لذلك.
وبشأن أصول المهاجرين اليهود إلى (إسرائيل) في عام 2014، تبوأت فرنسا المرتبة الأولى من حيث المهاجرين اليهود منها، وذكر التقرير المشار إليه أن عدد اليهود المهاجرين من فرنسا إلى إسرائيل بلغ سبعة آلاف، فيما كان عددهم في نهاية عام 2013 نحو 3500 مهاجر يهودي، وتوقع التقرير قدوم عشرة آلاف مهاجر يهودي من فرنسا إلى إسرائيل في العام الجاري 2015.
في مقابل ذلك، بلغ عدد اليهود القادمين من أوكرانيا 5840 مهاجراً، وارتفع العدد ثلاث
مرات في السنوات الأخيرة، ويعزى الأمر إلى تأثيرات الأزمة التي تشهدها أوكرانيا منذ عامين. وناهز عدد اليهود القادمين من الولايات المتحدة ثلاثة آلاف، ومن دول القوقاز وآسيا الوسطى سبعمائة، ومن أوروبا الشرقية 232 مهاجراً يهودياً، ومن أستراليا ونيوزيلندا مائتين فقط.
شيخوخة زاحفة
ترافق صدور التقرير المذكور مع إصدار الجهاز الإحصائي الإسرائيلي، قبل أيام، تقريراً آخر، يتضمن معطيات عامة حول صورة (إسرائيل) الديموغرافية في نهاية عام 2014. وأوضحت المعطيات أن مجموع سكان إسرائيل قد بلغ 8,296,000 نسمة. وبينت المعطيات أن عدد اليهود وصل إلى 6,218,000 نسمة، ويشكلون 74،9 % من مجموع سكان (إسرائيل)، كما بينت أن عدد العرب وصل إلى 1,719,000، تشمل القدس والجولان المحتلين، ويشكلون ما نسبته 20،7%. وصنف التقرير نحو 359,000 شخصاً على أنهم "آخرون"، ويمثلون 5، 3%
,وأوضح التقرير أنه خلال العام 2014 ارتفع عدد السكان في إسرائيل بـ 162,000 نسمة، أي بنسبة 2%، وهي نسبة مماثلة للزيادة في العقد الأخير .وتبين أن الزيادة نجمت عن ولادة 176,600 طفل، ولم يشر التقرير إلى عدد الوفيات، وبالتالي إلى الزيادة الطبيعية. وأفاد بأن عدد السكان في نهاية العام 2013 بلغ 8,132,000 نسمة، وفي نهاية العام 2012 وصل إلى 7,981,000 نسمة. وأوضحت معطيات التقرير أن عدد السكان قبل 10 سنوات بلغ 6,862,000 نسمة، أي أن الزيادة منذ ذلك الحين، وحتى العام المنصرم 2014 وصلت إلى 1,434,000 نسمة.
وعلى الرغم من نشر تقارير عن التطورات الديموغرافية في إسرائيل، فإن المؤسسة الاسرائيلية تخفي مؤشرات ومعطيات عديدة حول ظاهرة الشيخوخة الزاحفة في المجتمع الإسرائيلي التي باتت تؤرق أصحاب القرار والمخططين الاستراتيجيين في إسرائيل، حيث لا يشكل الأطفال سوى 29 % من التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين. وفي مقابل ذلك، وصلت نسبة الشيوخ (65 سنة وما فوق) إلى 10%، وبذلك يعتبر التجمع الاستيطاني هرماً وفق المعايير الديموغرافية الدولية.
وبطبيعة الحال، لا يمكن الحد وتجاوز تلك الظاهرة من دون تهيئة الظروف من أجل جذب عدد كبير من يهود إفريقيا وآسيا، نظراً إلى ارتفاع نسب المواليد بينهم. وليس الأمر بهذه السهولة، كما يؤكد ذلك باحثون متخصصون بالديموغرافيا، نظراً إلى أن عوامل دفع هؤلاء اليهود من بلدانهم الأصلية باتجاه إسرائيل غير ناضجة، ناهيك عن أن النسبة الكبرى من يهود العالم يتركزون في دول ذات جذب اقتصادي مرتفع، مثل الولايات المتحدة، حيث يصل مجموع اليهود فيها إلى 5،5 مليون يهودي من أصل 13 مليون يهودي في العالم.
وحتى لو استطاعت إسرائيل دفع آلاف اليهود من تلك الدول إليها، فذلك لن يعزز فكرة اتساع قاعدة الهرم السكاني التي تمثل الأطفال، خصوصاً أن الخصوبة بين اليهود الإشكناز أساساً (اليهود من أميركا وأوروبا)، والذين يشكلون نحو 40% من اليهود في إسرائيل، لا تزال منخفضة، ولا تتعدى مولودين للمرأة، طوال حياتها الإنجابية، مقارنة مع أكثر من خمسة مواليد للمرأة العربية.
وتبعاً لذلك، تشير الاحتمالات إلى عدم قدرة أصحاب القرار في إسرائيل على الحد من تفاقم ظاهرة الشيخوخة التي تلاحق المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً وأن لها أبعاداً متشعبة، تتعدى القرار السياسي الداعي إلى هجرة مزيد من يهود العالم إلى فلسطين المحتلة، بغية الإخلال في التوازن الديموغرافي أولاً، وصولاً إلى قلب المعادلة الديموغرافية لصالح التجمع الاستيطاني اليهودي في المدى البعيد. وقد تساعد عملية ترسيخ فكرة يهودية "إسرائيل" في تهئية الظروف لجذب مزيد من اليهود باتجاه الأراضي العربية المحتلة.
يهودية الدولة والهجرة
سلطت غالبية البحوث والمقالات عن فكرة ومصطلح يهودية الدولة الضوء على تداعيات المصطلح، فيما لو تم تعميمه وتطبيقه على مستقبل الأقلية العربية في إسرائيل، وعلى اللاجئين الفلسطينيين، ومستقبل قرار الأمم المتحدة 194 بشأن عودة اللاجئين الفلسطينيين، ولم يتم إلقاء الضوء، لا من قريب ولا من بعيد، على أثر تلك الفكرة على البعد الديموغرافي، المتمثل، أساساً، في مستقبل الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة. وفي هذا السياق، يستغل قادة إسرائيل
المناسبات كافة للتأكيد على أهمية جذب المزيد من يهود العالم إلى فلسطين المحتلة، إذ تعد الهجرة اليهودية من أهم دعائم استمرار إسرائيل، كياناً استثنائياً في المنطقة. وهناك أسباب كامنة لنضوب الهجرة اليهودية، أو على الأقل تراجعها، في الأعوام القليلة الماضية، مقارنة بالسنوات الأولى التي تلت إنشاء "إسرائيل"، وكذلك عقد التسعينيات كما أشرنا. وفي مقدمة تلك الأسباب، أن عوامل الطرد لليهود من بلادهم الأصلية تراجعت، كما أن عوامل الجذب المحلية تراجعت أيضاً.
ومن الأهمية الإشارة إلى أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة تعتبر حجر الزاوية لاستمرار إسرائيل، دولة غير طبيعية على حساب الشعب الفلسطيني، حيث للعنصر البشري اليهودي دور محوري، في بناء جيش قوي وقادر على التوسع والعدوان. وفي هذا السياق، تفيد الدراسات بأن الحركة الصهيونية استطاعت جذب نحو 650 ألف مهاجر يهودي حتى مايو/أيار من عام 1948، وبعد إنشاء إسرائيل في العام المذكور، عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على اجتذاب مهاجرين جدد من يهود العالم، فاستطاعت جذب أكثر من أربعة ملايين يهودي في الفترة (1948-2014)، بيد أنه هاجر من فلسطين المحتلة نحو 20% منهم، نتيجة عدم قدرتهم على التلاؤم مع ظروف مختلفة عن بلد المنشأ في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها. وتعتبر الفترة (1948-1960)، وكذلك الفترة (1991-2000)، من الفترات الذهبية لجذب مهاجرين يهود باتجاه فلسطين المحتلة، حيث ساهمت الهجرة في أثناء الفترتين بنحو 65% من إجمالي الزيادة اليهودية.
ماذا عن المستقبل؟
على الرغم من الارتفاع في أرقام الهجرة اليهودية في عام 2014، مقارنة بعام 2013، فإن الهاجس الديموغرافي سيبقى العنوان الأول للمخططين والاستراتيجيين وخبراء الديموغرافيا وعلم الاجتماع، وللحكومات الإسرائيلية المقبلة، حيث تذكر دراسات أنه، وتبعاً لمعدلات النمو السكاني السائدة في عام 2014 بين الفلسطينيين واليهود، في داخل حدود فلسطين التاريخية، سيتساوى عدد الفلسطينيين واليهود في نهاية العام الحالي 2015، حيث سيبلغ نحو 6،3 ملايين. وستصبح نسبة السكان اليهود حوالي 48،7% من مجموع السكان في فلسطين التاريخية؛ وذلك بحلول عام 2020. وسيصل عددهم إلى نحو 6،8 ملايين يهودي في مقابل 7،2 ملايين فلسطيني.
يتضح مما تقدم أن هناك صراعاً مهماً خفياً يحصل بين العرب واليهود على أرض فلسطين، وهو لصالح العرب في المدى الاستراتيجي، كما أشرنا وللأسباب المذكورة آنفاً. لكن، تبقى الإشارة إلى ضرورة دعم العرب الفلسطينيين فوق أرضهم، بغية صمودهم وتثبيتهم، حتى لا تتحقق أحلام المؤسسة الإسرائيلية في قلب الميزان الديموغرافي لصالح التجمع الاستيطاني في فلسطين، بعد تحقيق مزيد من السيطرة على الأرض الفلسطينية.