إرهان ملك الجبال وسيد التلال!

02 اغسطس 2018
+ الخط -
"للأسف لم أجد مرشداً سياحياً يتكلم العربية في المدينة، لكن هناك من يتكلم الإنكليزية، هل يناسبك؟"، هكذا سألني حسن بيه مرشدي ومترجمي في كافة زياراتي لتركيا، وتجربتي المريرة جعلتني أسارع في الإجابة: "الحقني به أنا في عرضك"، لأتعرف على إرهان أو الدكتور إرهان، بفضل الصدفة التي منعت حسن بيه من السفر معنا إلى (طرابزون) أهم مدن الشمال التركي المطلة على البحر الأسود.

كانت الليلة العصيبة التي قضيتها في المدينة بدون مرشد ولا مترجم، قد كشفت لنا كيف تتفاقم في طرابزون مشكلة عدم تحدث الغالبية الساحقة من الأتراك بغير لغتهم، بما في ذلك الإنكليزية لغة السياحة الأولى في العالم، ربما لأن طرابزون ليست معتمدة على السياحة بنفس القدر الذي تعتمد عليه مدن تركية أخرى مثل إسطنبول ومدن الجنوب الغربي.

كانت تلك مشكلتنا الثانية مع المدينة، بعد مطارها المخيف، الذي لا يطل على البحر الأسود، بل يقع على شاطئه مباشرة، أو يكاد يقع فيه، لدرجة تجعل تجربة الهبوط مخيفة للغاية، مهما بدت ثقتك في مهارة الطيار، ولذلك لم أستغرب ما شاهدته في الأخبار مؤخراً عن حادثة سقوط طائرة كانت تستعد للهبوط في مياه البحر "الملازق" للمطار، فقد كان ذلك المشهد ما رأيته في عين خيالي، حين هبطت طائرتنا إلى طرابزون وحين أقلعت منها، ولذلك حين قررت أن أعود إليها بعد عام، سافرت إليها براً، طلباً للسلامة، وحرصاً على الاستمتاع بجمال المناظر الطبيعية الخلابة طوال الطريق من لإسطنبول إلى طرابزون.



كانت زيارتنا الأولى للمدينة في صيف 2007، وكنا قد زرنا قبلها عدة مدن تركية في العامين السابقين، لذلك بدا لي مطار طرابزون شديد التواضع والفوضى مقارنة بغيره، لكن موظفيه كانوا في غاية الطيبة والود، وهي ميزة ستدرك أهميتها لو كنت قد رأيت الوجوه المتجهمة عكرة المزاج التي تدير أمور مطارات إسطنبول وأنطاليا وإزمير. لم يكن في استقبالنا أحد، ولذلك أدركنا أن لغة الإشارة ستكون المخرج الوحيد للتعامل في المدينة، لأنك إذا لم تجد أبداً من يتحدث الإنكليزية في مطار مدينة، فلن تجده بالضرورة داخل المدينة. تصادف يومها أن أصيبت ابنتي الرضيعة بالتهابات في جلدها، لأننا لم نتمكن من التغيير لها في الطائرة، التي كانت كراسيها أضيق من أي رغبة في فرد الذراعين، وهي التهابات كان سينهيها الحصول على أي مرهم من أي نوع، لكن ذلك بدا حلماً بعيد المنال، بعد محاولاتي المستميتة لشرح حاجتي إلى مرهم مضاد للالتهاب، لموظفة استقبال الفندق الذي يفترض أنه من أكبر فنادق المدينة الواقعة في وسطها، ثم تكرار الشرح لأصحاب ثلاث صيدليات مجاورة للفندق، لأن صيادلة تركيا كأطبائها ومهندسيها، يتعلمون كل شيء باللغة التركية، وهو شيء يثير الإعجاب بالتأكيد، ولكن حين لا تكون بحاجة إلى إنقاذ طفلتك من آلامها.

ولأننا لم نكن قد دخلنا "من وَسَع" عصر الهواتف الذكية، فقد كان لزاماً عليّ كأب لا يتردد في التضحية بكبريائه من أجل ابنته، أن أشير إلى خلفيتي في كل صيدلية، ثم أقوم بتمثيل مشاعر الألم والحرقة، ويبدو أن إخلاصي في الشرح أو فشلي في التمثيل، دفع صاحب أول صيدلية لطردي وهو غاضب أو خائف على سمعة المكان، بينما طردت أنا نفسي من صيدلية الثاني الذي ظل يتفرج علي وهو يكاد يموت من الضحك، أما الصيدلي الثالث فقد تأثر بأدائي الذي تحسن مع الوقت، لكنه طلب مني بلغة الإشارة أن أخلع بنطلوني، ليرى بالتحديد موضع الألم الذي أشكو منه، لتنقذني من مزيد من المهانة رؤيتي لصورة طفل على غلاف عبوة بامبرز لم أكن قد رأيتها أمامي في الصيدلتين السابقتين، فانقضضت عليها وأخذت أشير إلى مؤخرة الطفل وأكرر انفعالات الألم وأنا أحاول ترجمة الموقف إلى إشارات دالة، لأخرج من الصيدلية بالمرهم المرتجى، بأقل قدر ممكن من الخسائر المعنوية.

لذلك كان يجب أن أفرح بالعثور على الدكتور إرهان، الذي عرفت من حسن بيه أنه لا يتكلم الإنكليزية فقط، بل ويقوم بتدريسها في جامعة طرابزون تكنيك، التي عرفت من إرهان بعد ذلك أنها واحدة من الجامعات التي تعطيها الحكومة التركية اهتماماً خاصاً، ضمن سياسة بدأت قبلها بأعوام لتحسين أحوال الجامعات التركية ودفعها للمنافسة مع غيرها من الجامعات العالمية، كان إرهان قد بدأ منذ عامين فقط العمل كمرشد سياحي في فترة الصيف، لتحسين دخله بعد أن تزوج ورزق بطفلة قبل أشهر من تعرفنا عليه، لكن وعلى عكس مدن تركية أخرى، لم يكن إرهان الذي يتحدث الإنكليزية بطلاقة، فرخة بكشك أو عملة نادرة، لأن اللغة الأكثر طلباً في مهنة الإرشاد السياحي هناك كانت العربية، لأن غالبية السياح القادمين إلى المدينة وما حولها يأتون من دول الخليج العربي، لأن منطقة البحر الأسود الجبلية تكون في عز الصيف معتدلة الحرارة، بل وباردة ليلاً، فتشعر في قراها الجبلية المحاطة بالغابات والأنهار الصغيرة الهادرة، أنك في قلب أوروبا، ولكن بأسعار أرخص بكثير، فضلاً عن وجودك في بيئة أكثر مودة وحفاوة بالعرب، ولذلك تحديداً لم يُتح لحسن بيه توفير مرشد سياحي يتحدث العربية حين اضطرته الظروف للتخلف عن السفر.


في الساعات الأولى للقائنا بإرهان، كان من السهل أن نلاحظ الارتباك البادي عليه، وهو يبحث عن طريقة لتنظيم حكي المعلومات الكثيرة التي يريد إيصالها لنا عن المدينة وتاريخها ومعالمها، وكان بديهياً أن أحاول تخفيف "لخمته" بالحديث عن تشابه اسمه مع اسم الأديب التركي أورهان باموق الذي كان قد حصل على نوبل للآداب في العام السابق لوصولنا، لكن محاولتي فشلت حين قال بحماس: "لا يا عزيزي، أنا اسمي إرهان وهو اسمه أورهان والفارق كبير بين الاسمين"، جعلني حماسه أظن أنه مثل كثيرين من الأتراك لا يحب أورهان باموق، الذي لم أكن وقتها قد اكتشفت بعد جماله وعبقريته، لأنني تسرعت في الحكم عليه بعد أن لم أكمل قراءة أول رواية له وقعت تحت يدي، لذلك قلت لإرهان: "لا تغضب يا عزيزي، أنا أصلاً مثلك لا أحب أورهان باموق"، وفوجئت أنه رد مستغرباً: "كيف يعقل ذلك، هل تقول لي إنك قرأت لأورهان باموق ولم تحبه وأنت كاتب كما فهمت من حسن بيه؟"، تجاهلت سؤاله وقلت: "سأجيبك حين تقول لي في البداية ما هو الفارق الكبير بين اسم أورهان وإرهان؟"، فقال بحماس المدرس المخلص إن كلمة (أورهان) تعني الغازي أو القائد، أما كلمة (إرهان) فتعني الشجاع، ثم أضاف ضاحكاً أنه لم يكن سيسامح والده لو اختار له اسماً له علاقة بالحرب أو الغزو، "لأننا لسنا في تركيا بحاجة إلى المزيد من القادة والجنرالات والفاتحين"، ولأن إرهان كان يحب أورهان باموق لأسباب أدبية وفكرية، لم يفوت الأمر وسألني لماذا لا أحب كاتبه المفضل، فقلت متهرباً من الإجابة، إنني أحب أكثر منه كاتباً أقدم سناً اسمه عزيز نيسين، وأنه بالتحديد سبب زيارتي إلى طرابزون التي سبق أن تعرض للنفي إليها خلال الحكم العسكري لتركيا، لتغيَّر تلك الإجابة شكل علاقتنا، من علاقة سائح بمرشد إلى علاقة صداقة تشبه علاقتي بزميله الأكبر سناً حسن بيه مدرس التاريخ ذي الأصول العربية، الذي استمتعت بصحبته في المرات التسع التي زرت فيها تركيا. (سبق أن كتبت أكثر عن حسن بيه وتجربتي معه في كتاب (التغريبة البلالية) الذي صدر عام 2012).

اتضح من أول ساعة في لقائي مع إرهان، أنه لا يشاركني الإعجاب فقط بإمام الساخرين عزيز نيسين، بل وبكتاب أتراك رائعين مثل مظفر إزغو ويشار كمال وفقير بايقورت وأورهان كمال ويعقوب قدري، الذين اتضح أن ما قرأته لهم مترجماً إلى العربية بفضل مترجمين أفذاذ مثل المرحوم عبد القادر عبد اللي، لم يكن سوى غيض من فيض إبداعاتهم، ليتواصل حديثنا الأدبي مع عدة أكواب "دوبل تشاي" شربناها في ميدان أتاتورك، الذي يكفي من مجرد ذكر اسمه أن تعرف أنه أهم ميادين طرابزون، برغم صغره الشديد. كانت حديقة الميدان رائقة ومبهجة، وكان الجو جميلاً ومنعشاً بدرجة لا تتناسب مع ما عهدناه عن أغسطس الخنيق أو آب اللهّاب كما يسميه إخواننا الشوام.



قال إرهان إنه قرأ الكتاب الذي حكى فيه عزيز نيسين تجربة نفيه إلى طرابزون، وإنه سيشير لي خلال تجوالنا في المدينة إلى بعض الأحياء والمناطق التي ذكرها نيسين في الكتاب، حين سألت إرهان عن سر انقطاع الكهرباء المتكرر في الفندق، قال إن طرابزون كانت من المدن التي تأخر الاهتمام بها، مقارنة بغيرها من المدن الكبرى التي تستقطب ملايين السياح، وإن بنية المدينة التحتية تعاني من تدفق الأمطار في أغلب فصول السنة، لكنه مع ذلك مستبشر خيراً بالمحافظ الجديد الذي ينتظر سكان المدينة منه أن يفي بالمشروعات التي وعد بها، والتي ستحل مشكلات كثيرة في المدينة، لينقلنا الحديث من الأدب إلى السياسة، فأعرف أن إرهان وأسرته ينتميان إلى حزب الشعب الديمقراطي المعارض، لكنه قام بالتصويت لحزب العدالة والتنمية، لما لمسه بفضل سياسات الحزب من تغيرات في حياته كمدرس جامعي وكمواطن طرابزوني، وحين امتد بنا الحديث أطول مما كان مخططاً، ودعنا بعضنا على وعد باستئناف الحديث خلال جولتنا التي ستبدأ رسمياً من الغد.

قبل أن ننطلق في جولتنا الأولى صباح اليوم التالي، سألنا إرهان بتردد ما إذا كنا سنسمح له أن يقوم بترتيب زياراتنا في الأيام الأربعة التي سنقضيها في المدينة بشكل مختلف عما كان ينتويه من قبل، وحين استوضحنا قصده قال ضاحكاً بعد تردد إنه سأل صديقاً له عمل مع سياح عرب، فقال له إن العرب لا يحبون التنقل الكثير ولا صعود الجبال، ضعهم في مكان فيه خضرة وماء ومطاعم قريبة وسيسعدون بذلك، وبعد أن تحدثنا عن سر غرام العرب بمنطقة البحر الأسود بالذات، قلت إنني ـ على عكس ما يوحي مظهري ـ أعشق صعود الجبال، ولكن إذا أتيحت لي فرصة أطول لالتقاط الأنفاس، فقال مطمئِناً إن أغلب تنقلاتنا ستكون بالسيارة حتى في الطرق الجبلية غير المعبّدة، لكن الأمر سيحتاج أحياناً إلى ترك السيارة للوصول إلى أماكن مخبوءة شديدة الجمال، لا تذهب إليها إلا سيراً على الأقدام، لكن تجربة زيارتها لن تدفعنا فقط لزيارة طرابزون ثانية، بل وستظل معنا بقية العمر، وقد كان محقاً فيما وعدنا به.



حداثة عهد إرهان بمهنة الإرشاد السياحي، جعلته شديد الحذر من أي تصرف يمكن أن نفهم منه رغبته في استغلالنا، ولذلك حرص في البداية على الاتصال بحسن بيه الذي لم يكن يعرفه شخصياً، ليحكي له عن الأماكن التي ينوي تعريفنا عليها، والتي سينجم عنها استهلاك أكثر في البنزين الذي كنا مسؤولين عن دفع ثمنه، وأنه مستعد لمشاركتنا في التكلفة لو رأيناها أغلى من اللازم، لأنه يعز عليه أن يأتي من يعملون بالكتابة ويحبون الأدب إلى مدينته، ولا يريون فيها إلا الأماكن المعتادة التي يذهب إليها السياح، وحين أخذ حسن بيه السماعة قال ضاحكاً إننا فيما يبدو محظوظان لأنه تغيب عن الرحلة، لأنه لم يكن يعرف في المنطقة إلا المعلومات العامة التي يعرفها أي مرشد سياحي، ثم قال إن إرهان في الجزء الوحيد من المكالمة الذي تحدث معه بالتركية، رجاه أن يقنعنا بالسماح له باصطحابنا إلى مكانين خاصين به: بيته والجامعة التي يعمل فيها، لأن ذلك سيكون ضرورياً لكي نتعرف أكثر على المدينة وأهلها، وأنه لن يقبل أن ندفع أجرته كمرشد سياحي في هذا اليوم الذي سيكون فيه مجرد صديق، وأنه سيعتبر أي نقاش في هذا الموضوع إهانة له، بل ولحسن بيه بحكم زمالتهما في الإرشاد السياحي والتدريس، وأكد لي حسن بيه بأن المسألة لا تقبل الفصال وإطالة الحديث في الأمر، وأن إرهان لكي يضمن عدم تحايلنا على الاتفاق، سيجعل زيارة الجامعة ثم البيت، آخر ما نقوم به في يومنا الأخير، بعد أن يتقاضى أجره.

لم يكن إرهان مبالغاً حين قال لنا إن ما سنراه في جولتنا معه، سيكون تجربة تظل معنا بقية العمر، على رأسها تجربة زيارة جبل الضباب الذي يبعد حوالي 90 كيلومتراً عن طرابزون، والذي أرانا فيه مناطق لا يذهب إليها السياح عادة، من بينها منطقة يقول أهلها إنها شهدت اللقاء الشهير بين سيدنا موسى وسيدنا الخضر، وبرغم أن هناك عدة مناطق في تركيا وإيران يزعم أهلها أن ذلك اللقاء حدث فيها، إلا أنني قلت لإرهان إنني اعتمدت رواية أهل المنطقة، لأن الضباب المحيط بكل شيء مثالي للغموض الذي أحاط بشخصية الخضر وقراراته المفاجئة، بالطبع لم يكن التجوال في بعض مناطق جبل الضباب سهلاً، لا بالسيارة ولا سيراً على الأقدام، لأن الأمر الذي يبدأ لطيفاً ومضحكاً، يصبح خطيراً حين تدرك أنك يمكن أن تتعثر في حجر لا تراه فتنزلق وتتدحرج على صخور حادة يمكن أن يفتح أحدها رأسك فتحة لا يغلق بعدها، فتنتقل إلى معية سيدنا الخضر.



في يوم آخر قرر إرهان أن يذهب بنا إلى منطقة تمتلك جبالها وجهاً آخر لما هو معهود عن جبال البحر الأسود، فقد كانت الجبال فيه متقشفة الخضرة والشمس ساطعة طول النهار، ولم نجد كعادتنا في كل مكان نذهب إليه شلالاً يتدفق بكثافة، ليصب في نهر هادر في الوادي، قال لنا إرهان إن هذا المكان في الشتاء يصبح مقصداً مثالياً لهواة التزلج على الجليد لأنه خالٍ من الغابات التي يحرم القانون قطعها، ولو كان ذلك لأغراض سياحية بهدف عمل مساحة للتزلج على الجليد في الشتاء. في مكان ما من الجبل، أوقف السيارة وطلب منا أن نتسلق مرتفعاً قال إننا سنجد بعده معجزة، بقيت زوجتي مع ابنتنا الرضيعة في السيارة، وذهبت معه لنجد بعد صعود لم يطل نبعاً تتدفق منه مياه كبريتية ساخنة، يتقاطع مع نبع تتدفق منه مياه عذبة باردة، ولا يفصل بينهما سوى نصف متر تقريباً، وقال إن هذه المنطقة مشهورة بتجاور الينابيع الساخنة والباردة، وإننا يوماً ما حين تكبر ابنتي وابنته وتقدران على الحركة بسهولة، سنتسلق معاً حتى قمة الجبل، لنرى ما لا يقل عن عشرة ينابيع متجاورة تختلف في طبيعة مياهها وطعومها ودرجات حرارتها، وإنه سيريني صوراً لها حين نذهب إلى بيته، وحين عدنا إلى السيارة، قال إنه تضامناً مع اضطرار زوجتي للبقاء مع ابنتنا، سيرينا مكاناً مخبوءاً في بطن الجبل، اسمه (بحيرة الليمون)، لن نجده مزدحماً، لأنه ليس مشهوراً لدى الكثيرين، وإننا سنجد إلى جواره بيتاً صغيراً يمتلكه راعي غنم، يبيع طعاماً للمترددين القلائل على المنطقة، يطهوه بنفسه، بينما تقوم زوجته بعمل الخبز فقط، وإننا لن نأكل أحلى من ذلك الطعام في حياتنا.



كان إرهان محقاً في ما قاله عن مطبخ راعي الغنم، تماماً كما كان محقاً في وصفه لكل مكان اصطحبنا إليه في الجبال المحيطة بطرابزون، لأمنحه لقب (ملك الجبال وسيد التلال) وأُلحق بذلك اللقب العربي كلمتي "تشوك جوزال" التي كنت أعرف أنها تعني بالتركية شديد الجمال، وهو لقب كتبته له باللغة العربية، فأراه بكل فخر لزوجته وأسرته، ولزملائه في الجامعة التي اصطحبنا إليها، وإلى نادي أعضاء هيئة التدريس المطل على البحر الأسود، حيث لم يفهم إرهان خلال جولتنا، لماذا توقفت أطول من اللازم عند معلومة مجانية البوفيه المفتوح في مطعم النادي، والمتاح لجميع الأعضاء وأسرهم طيلة اليوم، قبل أن يقول بحرج إنه لا يأكل لديهم إلا مضطراً، برغم ما يبذلونه من مجهود لتحسين الخدمة، لأنه يفضل أكل زوجته، وحين اتضح أنه محق أيضاً في وصف فرادة أكل زوجته، قالت لنا إننا حين سنأتي في العام القادم، سنجرب أكل والدتها وسنعرف أنها لم تكن خير خليفة لوالدتها في المطابخ.

كانت شقة إرهان تقع قرب سفح أحد الجبال التي تتوزع عليها أحياء طرابزون، لم تكن الشقة ترى البحر إلا من نافذة جانبية، وكان إرهان سعيداً بذلك لأن مواجهة البحر في الشتاء ليست فكرة لطيفة على الإطلاق، لم تكن ابنتانا قد أكملتا عامهما الأول، لكن ابنتي كانت أكبر بشهرين، ولذلك تعاملت مع ابنته بتعالي المتقدمين في السن، ضحكنا كثيراً يومها وقضينا وقتاً ممتعاً، وحين خرجت معه إلى البلكونة ليشرب سيجارة، أخذنا ننظر من خلف زجاج البلكونة إلى أسرتينا، وأخذ يحدثني عن أحلامه في الانتقال إلى شقة أكبر حين تكبر ابنته، شقة سيختارها في مكان أبعد عن البحر، وأقرب إلى الجامعة، حدثني عن تكلفة التدفئة التي أصبحت عالية جداً، عن حلمه بإنشاء شركة متخصصة في السياحة الشتائية، ينظم فيها رحلات للتزلج على الجليد وتسلق الجبال في الشتاء، وكيف ورث محبة تسلق الجبال والتزلج من أبيه، كان يرى أن طرابزون يمكن أن تنافس المدن التركية الأخرى في هذا النوع من السياحة الذي يحبه الأجانب، خاصة أن الأسعار التي يمكن أن يتم تقديمها ستكون أرخص بكثير من جميع أماكن أوروبا المماثلة، وأنه يحلم بأن يكتب بالإنكليزية كتاباً مزيناً بالصور عن جبال البحر الأسود، ليكون مساعداً على عمل شركته، التي وجد أصدقاء متحمسين لمشاركته فيها، ووعدته أن أكون من أول زبائن الشركة، برغم أنني لا أمتلك علاقة طيبة بالثلج والجليد، لكنني وعدته أن أسلم نفسي له ليعلمني التزلج على الجليد، قبل أن ننصرف، حضرت والدته وأخت زوجته للسلام علينا، وبدا لنا أن أكبر مشاكل الزيارة القادمة، ستكون في الاستجابة لكل دعوات العشاء التي تلقيناها ممن حضر ومن لم يحضر من أقاربه ونسايبه.



حين ذهبنا قبلها بيوم إلى منتزه أيدر الشهير، الذي يحتل المركز الأول في قائمة تفضيلات السياحة العربية، قلنا لإرهان إن المكان ساحر الجمال، لدرجة تجعلك تقرر زيارته ثانية بعد أول نصف ساعة تقضيها فيه، وإننا سنطلب من حسن بيه أن يرتب لنا عبر شركته الإقامة في المكان لفترة أطول في العام التالي، فنصحنا بأن نبتعد في الزيارة القادمة عن الفنادق الغالية والصاخبة، ودلنا على مكان غير معروف للكثيرين، يمكن فيه تأجير أكواخ صغيرة تجاور النهر الهادر مباشرة، بحيث تنام وتصحو فيها على صوت المياه الساحر، وتدفع ربع الثمن الذي تدفعه في إيجار غرفة في الفندق، ويمكن أن تعد طعامك في الكوخ المجهز بمطبخ صغير، أو تحضر طعامك من مطاعم القرية المجاورة، شريطة أن تحرص في الحالتين على عدم وضع بواقي الأكل في الخارج، لأن ذلك سيجتذب الدببة التي تسكن الغابة المجاورة، وهي تجربة شيقة خضناها في العام التالي، لكن إرهان لم يصحبنا فيها للأسف كما كنا نتمنى.



حين وصلنا إلى طرابزون في العام التالي، فهمنا سر الغموض الذي كان يكتنف حسن بيه كلما تحدثت معه عن إرهان، وعما وعدنا بترتيبه خلال زياتنا التالية لطرابزون وما يحيط بها، كان ذلك بعد أن وجدنا إحدى زميلات إرهان في الجامعة تنتظرنا في بهو الفندق في اليوم التالي لوصولنا، لتصطحبنا بدلاً من إرهان إلى كوخنا الموعود، وبعد أن تبادلنا التعارف والتحية، وتحدثنا عن اسم "إليف" الذي تتشارك فيه مع الكاتبة التركية إليف شفق، سألناها عن طريقة للاتصال بإرهان، الذي قال لنا حسن بيه إنه لن يكون متاحاً لاصطحابنا هذه المرة بسبب سفره المفاجئ خارج المدينة، فقامت بركن السيارة على جنب، وأخذت نفساً عميقاً، لكي تمنع نفسها من البكاء، ثم قالت لنا إن إرهان للأسف فارق الحياة في شهر فبراير الماضي، خلال رحلة تسلق جبلية، كان يفترض فيها أن يصحب محافظ طرابزون وعدداً من ضيوفه، وإن نقابة المرشدين السياحيين رشحت إرهان بالذات، لأنه كان يدهش الجميع بقدرته على معرفة أماكن الينابيع والبحيرات الصغيرة المختبئة في بطون الجبال، كان المحافظ حسن الحظ يومها، لأنه تخلف عن الرحلة بعد استدعائه لاجتماع رسمي في العاصمة، ليذهب إرهان مع بقية ضيوف المحافظ، ويقضي معهم أوقاتاً كان يمكن أن تكون من أجمل الأوقات في حياتهم جميعاً، لولا أنهم تعرضوا لانهيار ثلجي مفاجئ في إحدى القمم الجبلية التي لم تكن مشهورة أبداً بغدرها، لكنها غدرت بهم في ذلك اليوم المشؤوم، فدفنت بعضهم تحت ثلوجها، ونجا البعض الآخر، وللأسف لم يكن إرهان من الناجين.

...

حين تنتهي من قراءة هذه السطور، سأكون قد أرسلتها إلى حسن بيه مرفقة بهذه الملاحظة:
"عزيزي حسن بيه، هذا ما استطعت أن أكتبه عن المرحوم إرهان بعد كل هذه السنين على لقائي القصير به، لم تكن كتابة هذه السطور أمراً سهلاً، لكنني أتمنى أن تجد وسيلة لإيصالها إلى زوجته وابنته، لا أدري إذ كان يصح أن أجدد أحزان زوجته عليه بعد كل هذه السنين على غيابه، مما رأيته في الأيام القليلة التي عرفته فيها، لا أتصور أنها نسته، وإن كنت أتمنى أن تكون قد وجدت حياة جديدة أسعد وأقل حزناً، لا أدري لماذا أطلب منك هذه المهمة الثقيلة، لكنني شعرت أنني ملزم تجاه إرهان، أن أقول لابنته على لسانه كم كان يحبها، وإنه كان من أعذب البشر الذين عرفتهم في حياتي، وإنه رغم معرفتنا القصيرة ترك في أثراً لا يزول أبداً، يفترض أن تكون ابنته في الثانية عشرة من عمرها الآن، لا أدري إذا كانت ستتمكن من قراءة هذا الكلام مترجماً إلى العربية، لكنها بالتأكيد ستتعرف على صورة أبيها، وإذا لم يكن لديك وقت لأن تقرأ لها كل ما كتبته، فقل لها فقط إن كاتباً من مصر تشرف بمعرفة أبيها، الذي كان ولا يزال وسيظل إلى الأبد ملك الجبال وسيد التلال و"شوك جوزال".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.