إرث من شريان: جبل صغير من أعقاب السجائر

23 نوفمبر 2014
تحايل أبي طوال 14 عاماً على الأطباء (Getty)
+ الخط -
تحايل أبي طوال أربعة عشر عاماً على الأطباء. أبلغوه أوّلاً أن ثمة عطباً في شريان غير رئيسي للقلب. استمر طوال فترة علاجه التي طالت جداً بالتلاعب على شرايين قلبه، التي كانت تتعطل واحدة تلو الأخرى. كلما أصيب في شريان يخوض فترة جديدة من العلاج الذي لا يلتزم بأي شيء منه. قرار عدم الالتزام كان ردة فعله على نصيحة طبيب القلب الدائمة: توقف عن التدخين فوراً. لم يحبّذ أبي أن يعطيه أحد نصيحة بفعل أمرٍ. الرجل العنيد قبل تحدي قلبه له وخاضه إلى الأخير. خاض مع قلبه مباراة استمرت لأشواط إضافية كثيرة قبل رحيله. رحل مهزوماً، لكن ليس وحده، فنصيحة الطبيب أيضاً كانت الخاسرة هنا.

أقام أبي على شرفة غرفته في المستشفى جبلاً صغيراً من أعقاب السجائر. كان ينتظر خلوّ الغرفة من الممرضات والاطباء ليمارس تحايله على شرايين قلبه. شاركته سرّه هذا، فعملتُ مهرّباً للدخان خلال تلك الفترة. فعلتُ ذلك تحت وطأة عشرات الشتائم التي يكيلها لي في حال لم أقم بمهمتي. أصيب شريان آخر بالعطب، قال الاطباء إن الأمر يجهد عضلة القلب. حذّروه من العصبية والنقاشات الحادة. مجدداً استفاد أبي من اختلاف توجهاتنا السياسية معاً، ودار بيني و بينه ربما ألف نقاش ونقاش. لم يخل الأمر من طردي آخر كل جلسة، قبل أن يستدعيني من جديد إلى جلسة أخرى من خلال مهاتفتي: "تعا ولى! بدنا نكمّل..".

قال الاطباء إن الأمور معه بدأت تأخذ منحى سلبياً. عدم التزامه بالعلاج وطريقته في تحدي المرض، دفعتاهم إلى اتخاذ قرار ببدء عملية غسل الكلى. أصبح أبي يزور المستشفى كل يومين للقيام بعملية الغسل. الرجل الذي منعه الأطباء من أكل الدهون والسمن، كان يدرك أن تلك العملية تنظف الأمعاء تماماً. قرر مصاحبتي صباح كل يوم غسيل للكلى إلى مطعم فول شهير في بيروت. سمّينا تلك الصباحات الممتلئة بالفول والنخاع المقلي والسودة المغمّسة بربّ الرمان بـ"غزوات الكلى".

لم يكن أبي يهوى تحدي كلام الأطباء من باب المناكفة الفارغة. كل ما في الأمر أنّه قرر مواجهة مرضه على طريقة أنا الغريق فما خوفي من البلل. أقنعني بأن إشاركه قراره العيش كما كان دوماً. أن تمضي أيامه الاخيرة بين قهوته وسيجارته، بين مبادئه السياسية وتاريخه المليء بالمشاركة في الأحداث التي عصفت بلبنان، وبين متعته وتناول ما يطيب له من طعام. قرر أبي العيش كأي إنسان آخر ببساطة. أقنعني بالترهيب حين كان يشتمني أو يطردني إذا لم أتواطأ معه. أقنعني بالترغيب حين أسرّ إليّ أنه اختارني من بين إخوتي لأشاركه جنونه الأخير. "أنت الوحيد يلي بتفهم الجنون".. هكذا، ومع ابتسامة هي كل ما تبقى لي من أثره في بالي، أقنعني الرجل الذي رحل في الـ72 من عمره. مرت سنة على رحيله. سماعة طبيب القلب الذي رافقه تحط على صدري. ها أنا نائم على سرير عيادة الأخير، تماماً مثل والدي. أشرطة ماكينات القلب معلّقة بيدي وصدري وكتفي، كما رأيت والدي دوماً في سنواته الأخيرة.
ابتسمت حين وَجَم وجه الطبيب. ارتديت قميصي بعد الكشف الطبي. أخذت أوراق الفحوصات التي طلبها مني. سرت باتجاه باب العيادة وصوت الطبيب يتردد على مسامعي: "خفّفْ دخان واكل السمن والتعصيب... إنت متل أبوك... جسمك جسم أبوك".

لم يترك لي أبي ثروة. لم يترك أي مُلك أو عقار أو قطعة أرض. أحبّ أبي الحياة بتفاصيلها الصغيرة. ترك لي قهوة الصباح والسيجارة على وقع الأخبار الصباحية. ترك لي أن أختار من الأكل ألذّه وأطيبه. ترك لي الحرية في التعبير السياسي، والأهم أنه علّمني أن القرار الأول والأخير للناس، لا للأنظمة. ترك لي أن أقرر العيش من دون قيود حتى لو كانت طبية، فالأعمار لله فقط. لكن الأهمّ أنه ترك داخلي أحد شرايينه المعطوبة، شريان أبي الأحب والأقرب بالفعل إلى قلبي.
المساهمون