إذاعات مصرية.... ضحالة وسيطرة أمنية

28 ديسمبر 2017
مبنى ماسبيرو في القاهرة (Getty)
+ الخط -
لساعة كاملة هي مدة برنامجها ظلت المذيعة الشابة تكرر طلبها لمستمعيها عبرالراديو: ابعتوا لنا اسم أغنية للفنان كاظم الساهر بتبدأ بحرف الذال. التخمينات والإجابات الخاطئة تنهال عبر الاتصالات وصفحة فيسبوك والرقم المخصص للرسائل القصيرة.
بدت متعجبة ومندهشة من عدم الوصول إلى إجابة صحيحة، وهي تقول في نهاية الحلقة: "الأغنية هي... زيديني عشقاً". قبل أن يرسل لها مستمع مصححاً: "بس ده حرف الزاي". فسألته: "هو مش نفس الحرف"؟
على مدار اليوم باتت هذه الفقرات أبرز ما يسيطر على أثير الإذاعة في مصر، ليس الجهل فقط. بل كذلك الإغراق في الضحالة والموضوعات الساذجة التي يفترض أصحابها أنها خفيفة الدم وترفيهية، تجذب الجمهور وتسليه، وتزيد تفاعله عبر الرسائل المربحة للمحطة.
لسنوات طوال بدت الدولة ماضية في سياسة احكام السيطرة على ما يصل إلى الناس من الإذاعة. أكثر بكثير مما كانت تفعل في الصحافة والتلفزيون فالأثير قادر على الوصول إلى ما لا يصل إليه المنافسان الآخران وربما هذا مرجعه إلى طبيعة العسكريين التي كانت ترى في بيت الإذاعة المكان الذي تخرج منه بيانات الانقلابات، والذي يدخل كل بيت وتحمل أيادي الفلاحين والعمال أجهزة استقباله الصغيرة طوال الوقت.
باسم ضبط وتنظيم المشهد غابت الإذاعات الأهلية التي حفلت بها مصر منذ عشرينيات القرن الماضي وصولا إلى زمان الرئيس جمال عبد الناصر الذي دشن مرحلة جديدة من عمر البلاد في السياسة والإعلام ببيان تلاه رفيقه محمد أنور السادات في صباح الثالث والعشرين من يوليو/تموز 1952.
امتدت السيطرة الحكومية على الإذاعة مع باقي الوسائل الإعلامية إلى أن فتح فكر الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك الاقتصادي الراغب في طرح مزيد من الفرص أمام رجال الأعمال الباب قليلا أمام تملك صحف خاصة كالمصري اليوم واليوم السابع، وإذاعة غنائية وليدة اسمها "نجوم اف ام".
بدت الإذاعة مختلفة في أيامها الأولى، الجميع يجدها على موجة الإف ام. تبث أغان جديدة بلا توقف ولا إعلانات ولا أصوات مذيعين. أغنيات حديثة فقط وجدت متعطشين ملوا من أصوات وحواديت عفا عليها الزمن. صار بث الأغاني بلا انقطاع عند بدء إرسال إذاعة جديدة تقليدا متعارفا عليه.
جذبت الإذاعة الإعلانات والمستمعين والمذيعين. كما جذبت غضبا من خصخصة الفضاء، دفع الدولة بعد ذلك إلى محاولة إلغاء ترخصيها كل مرة، مع التعلم من التجربة بشكل جديد من الترخيص يسمح للحكومة بنسبة حاكمة في كل إذاعة وليدة، تضمن لها مشاركة شركات الإنتاج الموسيقي، ونسبة الإعلانات، واليد الطولى في التحكم فيما يقال بين تلك الأغنيات.
ومع المزيد من الإحكام الذي اتسمت به الفترة التي أعقبت إزاحة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي عن الحكم وتستمر إلى الآن كان شكل جديد يبدأ. إذ ظهرت إذاعة غامضة تدعى "تسعين تسعين" من خارج ماسبيرو أو مدينة الإنتاج الإعلامي. كان الجميع يعرف أنها تابعة لجهاز سيادي، من دون أن يتجرأ أحد على الإشارة إلى ذلك. إلى أن أصدرت إذاعة "نجوم أف أم" بياناً لمّحت في آخره إلى أن "تسعين تسعين" هي "محطة سرية"، وذلك على خلفية خلاف بين المحطتين على توقيع المذيع
أحمد يونس.
دشنت إذاعة "90 90" مرحلة جديدة. مزيد من البرامج الموجهة وأغنيات وطنية ركيكة. وضيوف من اسمهم قبل أن تسمع صوتهم تعرف سبب اختيارهم. وإلى جانب هذا كله المزيد والمزيد من السعي وراء إعلانات تنفق على هذا القطاع، مع مزيد من القوانين التي أغلقت الباب أمام استمرار الإذاعة الإلكترونية التي ازدهرت بشكل كبير في الفصل الأخير من حكم مبارك وما تلاه.
دخلت الأجهزة الأمنية عبر شركاتها وإعلامييها محاولة فرض سياستها على ما تبقى من مساحة في تلك الإذاعات. حتى نجوم إف ام نفسها فُرض عليها أن تضع موجزاً للأخبار. وإذاعات أخرى أزاحت نجومها لتفسح المجال لمن تحبهم الجهات الأمنية وتثق فيهم، ليجد المصريون أنفسهم محاصرين بين سيل مزجوا فيه الأسئلة الساذجة بالأغنيات الركيكة وخطابات الحشد والتوجيه المعنوي.
المساهمون