يبدو النظام السوري سائراً في تنفيذ مخططاته في سورية، في ظل عودة الإدارة الأميركية الجديدة إلى استراتيجية "الخطوط الحمراء" التي انتهجها الرئيس السابق باراك أوباما في سورية، عبر كلام لوزير الدفاع جيمس ماتيس حول تنبيه النظام السوري من استخدام الأسلحة الكيميائية مجدداً، ما يسمح للنظام باستكمال مساعيه على الأرض بدعم روسي، والتي كان آخرها إفراغ معظم مناطق محيط دمشق من مسلحي المعارضة وذويهم، عبر اتفاق "المدن الأربع"، في وقت كان فيه رئيس النظام بشار الأسد يوجه تهديداً للأميركيين، بأنهم "كأي محتل آخر عليهم الخروج بإرادتهم أو بالقوة" من سورية.
تزامن ذلك مع وصف الأسد العمليات التي تنفذها القوات التركية والأميركية على الأراضي السورية، بـ"الغزو"، مشدداً على أنها "كيان واحد" مع الإرهابيين و"لا فرق بينهم". وقال الأسد، في مقابلة مع وكالة "سبوتنيك" الروسية أمس، رداً على سؤال حول مدى احتمال وقوع تصعيد عسكري بعد الضربة الصاروخية الأميركية على قاعدة الشعيرات: "إنهم هاجموا القاعدة الجوية من المتوسط، وبالتالي فأنت تتحدث عن مئات الأميال، وأحياناً آلاف الأميال، وهذا خارج نطاق قدرة الجيش السوري على الوصول، إذا أردنا أن نكون واقعيين، يمكننا القول إننا لا نصل إلى سفنهم في المتوسط". وتابع الأسد: "لكن إذا تحدثت عن القوات على الأرض، مرة أخرى فالأمر شبيه بالوضع التركي، فعندما تهزم إرهابييهم، لأن الإرهابيين إرهابيوهم، عندها تستطيع أن تذهب وتحارب الآخرين، الذين يحتلون الأرض، وفي ذلك المجال، فإن الأميركيين كالأتراك، كأي محتل آخر عليهم الخروج بإرادتهم أو بالقوة".
ولفت الأسد إلى أن قوات نظامه خسرت أكثر من نصف قدراتها في الدفاع الجوي جراء عمليات المسلحين. وأضاف: "بالطبع، فإن الروس، ومن خلال دعمهم للجيش السوري، عوضوا جزءاً من تلك الخسارة بأسلحة وأنظمة دفاع جوي نوعية، لكن هذا لا يكفي عندما تتحدث عن بلد بأكمله، الأمر يستغرق وقتاً طويلاً لاستعادة كل دفاعاتنا الجوية".
كما قال الأسد إن لدى بلاده معلومات حول وجود خطط للأردن لإرسال قوات إلى جنوب سورية بالتنسيق مع الولايات المتحدة، معتبراً أن الأردن "كان جزءاً من المخطط الأميركي منذ بداية الحرب في سورية"، مضيفاً: "الأردن ليس بلداً مستقلاً على أي حال، وكل ما يريده الأميركيون منه سيحدث". في غضون ذلك، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يعتبر أن أعمال الولايات المتحدة وحلفائها في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ترمي إلى تغيير النظام في سورية. وأضاف لافروف: "لا شك أن أعمال الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الذين عرقلوا إرسال الخبراء بغية تحديد الحقيقة في مكان حادثة استخدام مواد كيميائية تثير القلق، لأن وراء هذه الأعمال تقف محاولة البحث عن ذريعة لعدم تنفيذ قرار مجلس الأمن حول التسوية السياسية في سورية، وذلك لتحويل أنظار المجتمع الدولي إلى خلق الشروط لتغيير النظام". كلام لافروف تزامن مع إعلان المتحدث الإعلامي باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، أمس، عن لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في الثالث من مايو/أيار المقبل في مدينة سوتشي الروسية "لبحث الوضع في سورية".
هذه التطورات السياسية تترافق مع استكمال تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق "المدن الأربع"، والتي نجح خلالها النظام السوري بإتمام عملية إفراغ معظم مناطق محيط دمشق من مسلحي المعارضة وذويهم، ولم يبقَ أمامه سوى منطقة الغوطة الشرقية مع امتداداتها في شرق العاصمة ومنطقة جنوب دمشق التي يسيطر على معظمها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وتُعتبر ساقطة عسكرياً، وإن كانت قوات النظام تمتنع عن اقتحامها حتى الآن لأنها لا تشكل أية خطورة عليها من الناحية العسكرية، إضافة إلى رغبة النظام في دوام الوضع الراهن بالنسبة لسكان هذه المناطق. وفي إطار اتفاق "المدن الأربع" جرت يوم أمس الجمعة عملية إخلاء الدفعة الثانية من سكان ومقاتلي كفريا، الفوعة، الزبداني، مضايا، ووصلت إلى مناطق سيطرة قوات المعارضة في محافظة إدلب الحافلات التي تقل ما تبقّى من سكان ومقاتلي مدينتي الزبداني ومضايا وبعض بلدات القلمون، مقابل وصول دفعة جديدة من سكان بلدتي كفريا والفوعة المواليتين للنظام من إدلب إلى مناطق سيطرة قوات النظام في حلب.
وكانت عملية التبادل قد تأجلت، بسبب خلاف حول بند الإفراج عن الأسرى، إذ يماطل النظام في تنفيذ هذا البند الذي يقضي بالإفراج عن 750 معتقلاً من سجونه في هذه المرحلة، إضافة إلى عدد مماثل في المرحلة الثانية التي يفترض أن تبدأ مطلع الشهر المقبل، وتتضمن أيضاً إخلاء ما تبقى من مقاتلي وسكان كفريا والفوعة وبضع مئات من مقاتلي "هيئة تحرير الشام" في جنوب دمشق. بينما أعلن المتحدث باسم جماعة "أحرار الشام" محمد أبو زيد لوكالة "رويترز" أمس أن المعارضة توصلت إلى اتفاق مع النظام يُطلق الأخير بمقتضاه سراح 500 سجين. وتضم قافلة ريف دمشق، المئات من مقاتلي مدينة الزبداني وجبلها الشرقي، ومدنيين ومقاتلين من بلدتي مضايا وبقين، وقرى منطقة وادي بردى، بينما تضم القافلة الأخرى نحو 3000 مدني وعسكري من القريتين المواليتين للنظام. وكان قد وصل نحو 2400 مهجر من بلدتي مضايا وبقين، قبل أيام، إلى محافظة إدلب، مقابل خروج نحو 5000 شخص من قريتي الفوعة وكفريا. ويأتي هذا الاتفاق الذي ينص على إخراج قرابة 3000 شخص من مضايا والزبداني وبلودان إلى الشمال، مقابل إخراج كامل كفريا والفوعة على دفعتين، استكمالاً لاتفاقات مشابهة هذا العام والعام الماضي قضت بإخلاء الكثير من بلدات الريف الدمشقي التي كانت بحوزة المعارضة، بدءاً من إخلاء سكان ومقاتلي مدينة درايا قرب دمشق في الشهر الثامن من العام الماضي، وصولاً إلى إخلاء قرى وادي بردى نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي.
وشكّل اتفاق داريا بداية انهيار في صفوف جبهة المعارضة، إذ تبعته سلسلة لم تتوقف بعد من الاتفاقيات المماثلة والتي تعكس بدء ميل الكفة لصالح النظام في مجمل مناطق الريف الدمشقي، وهي اتفاقات متشابهة تتضمن ترحيل المقاتلين إلى محافظة إدلب في الشمال السوري، وأحياناً الأهالي أيضاً أو جزءاً منهم، مقابل فك الحصار، ووقف القصف على تلك المناطق. وبعد داريا، تتالت الاتفاقات المشابهة لتشمل معضمية الشام المجاورة لداريا، ثم قدسيا والهامة اللتين تعتبران إلى جانب داريا الأقرب إلى دمشق. ومع إبعاد المسلحين عن هذه المناطق القريبة جداً من قلب العاصمة دمشق، بدأ النظام يتطلع إلى "تنظيف" المناطق الأبعد قليلاً مثل خان الشيح والتل، حيث جرت اتفاقات مشابهة تقضي بخروج المقاتلين، أو "تسوية" أوضاعهم. وبعد منطقة خان الشيح التي خضعت لحصار دام أكثر من عامين، سعى النظام إلى ترحيل مقاتلي المعارضة من بلدة كناكر المحاصرة في الغوطة الغربية وإرغامهم على توقيع "اتفاق مصالحة". وتحت الحصار والقصف والتهديد بالاجتياح أو الاجتياح المحدود، امتدت هذه الاتفاقات إلى بلدات أخرى في الريف الدمشقي مثل زاكية والدرخبية وكناكر ومجمل الغوطة الغربية.
وشكّل الريف الدمشقي منذ انطلاق الثورة السورية في ربيع 2011، مصدر قلق للنظام، ولم يمضِ عام 2013 إلا وكان معظم الريف الدمشقي بيد المعارضة المسلحة. ومن هنا بدأ النظام يستشعر خطورة هذا الوضع، فاستعان بـ"حزب الله" لمساعدته على تأمين المناطق الواقعة بين دمشق والحدود اللبنانية، وجعل تلك المناطق التي تشمل بلدات القلمون ووادي بردى مناطق نفوذ للحزب، الذي تولى قتال فصائل المعارضة فيها، ونجح خلال الأعوام التالية في تقليص ثقل قوات المعارضة هناك. كما تحظى مناطق شرق دمشق وجنوبها الشرقي باهتمام خاص من إيران و"حزب الله"، خصوصاً منطقة السيدة زينب وما حولها بحجة حماية مقام السيدة زينب هناك. وبهذه الذريعة، سيطرت المليشيات التي تدعمها إيران على الكثير من البلدات المجاورة للسيدة زينب والتي تم تهجير أهلها، ولم يُسمح لهم بالعودة إلى ديارهم.
هذه التراجعات في موقف قوات المعارضة شملت أيضاً الغوطة الشرقية التي يسيطر عليها بشكل رئيسي فصيلا "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، واللذان عاشا حالة تنازع واقتتال لبعض الوقت ساعدت قوات النظام على تحقيق اختراقات متتالية في جبهات الغوطة حتى باتت اليوم على بُعد نحو كيلومترين فقط من مدينة دوما كبرى مدن الغوطة، والمعقل الرئيسي لـ"جيش الإسلام". وبدأ الخرق في إبريل/نيسان العام الماضي حين تمكنت قوات النظام من فصل القطاع الجنوبي في الغوطة والذي يضم عدة بلدات مثل دير العصافير، زبدين، بالا، ركابية، حوش دوير، بياض، عن شمالها، أي فصل المناطق الزراعية عن المناطق الآهلة بالسكان، مما زاد من محنة الحصار المفروض على الغوطة منذ 4 سنوات.
كما تسعى قوات النظام إلى تحقيق اختراق على جبهة شرق دمشق التي تضم مناطق جوبر والقابون وبرزة بهدف إبعاد خطر المعارضة عن العاصمة دمشق، والذي ظهر جلياً من خلال الهجوم المفاجئ الذي شنته قوات المعارضة على العاصمة الشهر الماضي انطلاقاً من هذه المناطق واستطاعت الوصول إلى كراجات العباسيين قبل أن تتمكن قوات النظام من استعادتها مجدداً. وتدور المعارك اليوم في بساتين حي القابون بالتزامن مع قصف مدفعي وصاروخي وجوي مكثف يستهدف الحي، إذ تسعى قوات النظام والمليشيات إلى إجبار مقاتلي المعارضة على الانسحاب من الحي. وأفادت مصادر أمس الجمعة أن قوات النظام والمليشيات استطاعت التقدّم في حي القابون وسيطرت على عدة كتل سكنية على أطرافه.
وتُشكّل منطقة جنوب دمشق التي تضم بلدات الحجر الأسود والقدم وببيلا ويلدا وبيت سحم والتضامن إضافة إلى مخيم اليرموك، والتي كان يقطنها قبل الثورة أكثر من مليون ونصف المليون شخص، نموذجاً حياً لسياسة التهجير السكاني، إذ إن معظم سكان هذه المناطق غادروها خلال السنوات الماضية بسبب الحصار التجويعي والقصف، ليقع بعضها تحت سيطرة تنظيم "داعش"، ومناطق أخرى تحت سيطرة فصائل الجيش الحر، لكنها جميعاً تمتاز بضعفها العسكري بسبب خضوعها للحصار المحكم منذ سنوات. ويستطيع النظام، لو أراد، اجتياحها عسكرياً بسهولة، لكنه يمتنع عن ذلك بهدف إبقاء الوضع السكاني على حاله، لأن استعادتها من النظام يفترض أن تتبعها عودة الأهالي، وهم بمئات الآلاف، وهو ما لا يحبذه النظام.