منذ البدايات، حين ناقش بحثاً حول جماليات القدّيس توما الأكويني، اتّهِم من قبل أحد أساتذته بأنه يمارس نوعاً من "الغش السرديّ"، حيث قدّم البحث "كما لو أنَّ الأمر يتعلّق برواية بوليسيّة"، واستمر اعتقاده السائد أن الفكرة الرئيسيّة لأي بحث عليها أن تُسرد بهذه الطريقة، حتى طال هذا الأسلوب محاضراته ضمن "قراءات نورتون الست" في جامعة هارفرد عام 1993؛ التي كان يفتتحها بحكايات قصيرة؛ ذكرى إيتالو كالفينو وكتابه "لو أنَّ مسافراً ذات ليلة من ليالي الشتاء"، أو آخر ملوك إيطاليا فيكتوشر عمنويل الثالث ونفيه، أو إحدى قصص حرب الفوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين. تقريباً كلّما فتحنا كتاباً للسيميائيّ الإيطاليّ أُمبرتو إيكو، أو استمعنا لمحاضرة، هناك على الدوام حكاية في المقدّمة يرتكز عليها.
وحين يعدمُ حكايةً، يلجأ لسرد حكايته، كما في حديثه عن "التداولية" التي اشتغل بها "بلا معرفة" وتأثره بنظرية التأويل، وقصة إنجازه أجزاء من "العمل المفتوح" في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثم توجّهه لأبحاث الشكلانيين الروس، وعلم الإناسة البنيانيّ، واقتراحات جاكبسون السيميائية ومن ثم بارت، مكملاً حكاية ما تركه أو أهمله في مسيرته البحثيّة، وصولاً إلى "أطروحة في السيمياء العامة". كل ذلك يسرده قبل أن يدخل "القارئ في الحكاية" الذي جعله يدور حول قصة ألفونس ألّيه المعنونة بـ "مأساة باريسيّة حقاً"، حتى أنه سرد تفاصيل اختيار هذه القصة دون غيرها.
كانت نزعة الحكي منذ البدايات عند إيكو، وبما أنه ظل يبدي تحسّساً مما يطلق عليه البعض، الإلهام - الكلمة التي "يستعملها الكتّاب اعتباطاً لكي يلبسوا لبوس الفنانين المحترمين"- لجأ إلى ما كدّسه من معرفة في القرون الوسطى، وما أضافته أطروحته للدكتوراه عن الجماليات القروسطيّة، وأبحاث أخرى حول هذه المرحلة، إضافة إلى قيامه بزيارات إلى أديرة رومانيّة، وكنائس قوطيّة، لتخرج وفي سنتين فقط روايته الأولى "اسم الوردة".
لم تكن المشاهد في "اسم الوردة" وحدها التي شُيّدت بهوس في التفاصيل، والبحث الدقيق، حيث كل تفصيل في مكانه، إنما غلبت على معظم أعماله هذه الطريقة، فمن "جزيرة اليوم السابق" حيث أمضى أياماً طويلة عند البحر مراقباً الحياة البحريّة، وتخصيصه سنتين من عمره في دراسة الرسوم ونماذج البواخر التي تستعمل في الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، كل ذلك من أجل "معرفة أبعاد حجرة القبطان وكيف يمكن أن يتحرّك داخلها شخص ما"، إلى رحلات المشي حتى ساعات الفجر الأولى في باريس، لمساعدته في وصف أحداث من عمله "بندول فوكو"، جهدٌ فتح شهيّة كتّاب السيناريو على رواياته لإخراجها للسينما، حيث الحوارات متناسقة بشكل جيّد مع المسافات، وفقاً لوصف السيناريست ماركو فيريري لرواية "اسم الوردة".
قرّاء روايات إيكو، كما يقسّمهم هم نموذجيّ من الدرجة الأولى، يقرأ النص السردي بغية معرفة كيف ستنتهي القصّة، ونموذجيّ من الدرجة الثانية، يتوق إلى معرفة أية نوعية من القرّاء يريد النص، واكتشاف الطريقة التي يستعملها المؤلف النموذجيّ من أجل تسريب معلوماته، وسطحيون يقرؤونه من خلال "ذواكرهم الشخصيّة" هم سذّج، يقول عنهم، ربما من إيمانه بأن أي نص هو "آلة كسولة" تلح على القارئ بأن يقوم بالتأويل لا التصديق والتسليم.
في سنة 2011 اعتبر إيكو نفسه "روائياً ناشئاً، وبالتأكيد واعداً، لم يكتب إلى حد الآن سوى خمس روايات، وسيكتب الكثير منها في الخمسين سنة المقبلة"، لكن الزمن لم يسعفه للخمسين سنة، إنما لخمس سنوات فقط، أنجز فيهنّ رواية "العدد صفر" قبل أن تعلن عائلته عن وفاته مساء الجمعة عن 84 عاماً.
اقرأ أيضاً: آخر نزهة