أُترك كعاشق ظلّي وأغادر دمشق

30 يناير 2015
دمشق (Getty)
+ الخط -
ثلاث سنوات مرت عليّ بعيداً عنك يا شام. أمضي فأنتهي إلى حيث بدأت، كأنني أمضي على مسار دائري، أو كأنني ما مضيت، لا شيء بعيدا عنك يتغير، وبعيداً عنك العمر لم يعد يقاس بالوقت. هنا في الغربة، نحن الدمشقيون، استبدلنا الوقت بعدد الشهداء ومساحة الدمار ونار الفقد ولوعة الشوق.

وبعيداً عنك لم تعد شمس تغازلني، ولا دروب قديمة تغريني، فأسلم قدميّ لها، أو لقدميّ حسناء دمشقية تتمشى من أمام الجامع الأموي، حتى الكنيسة المريمية، في الجهة الشرقية من المدينة. هناك تركت كعاشق ظلي وغادرت دمشق، ما نفع ظلي في بلاد لا تشرق فيها شمسها.

ولا شيء بعدك يا دمشق يأخذني سوى شريط الأخبار. يوجزني في مقدمته، ويفصلني في متن النشرة. في كل مرة لا أشبه نفسي ولا تشبهين نفسك يا شام، ثمة من يغتالنا في الصورة، فيغرق وجوهنا بالدم أو الفقد.

على بعد ثلاث سنوات منك، مبلل بالحنين وبوجع إخوتي، أصعد إلى السماء بالدعاء، عساي أصير مطراً أينما شاء هطل، فأهطل في دمشق من دون أن يغتالني حاجز بالسؤال: لمن تعبر، وِلمَ العبور؟

تتداخل الصور والأصوات في غرفتي المرمية بعيداً عنك، لكن لا شيء منها ومنك حولي الآن، فأعيد ترتيبها على إيقاع المطر الذي حلمت أن أصيره، ولم يشأ هو أن يصيرني. تقول أمي: ليتني تركتك في رحم بطني لأنام آمنة ومطمئنة، لا خبر عاجلا عنك أخشاه أن يقضّ مضجعي، ولا غربة تأخذك مني. لو أني أدري أن حبل السرة بيني وبينك، سينوب عنه سلك الهاتف أو نشرة الأخبار، ما كنت تركت أحداً يقطعه، وما كنت تركتك تقطع حبل السرة بينك وبين دمشق.

يقول أبي: حاصرتني حواجز المتقاتلين في تل الزعتر، فعبرت بك طفلاً إلى هنا، وما كنت أدرك أن قدرك أن تكبر تحت أصوات الرصاص. كبرت يا ولدي، وتلك اليدين اللتين حملتاك طفلاً صارتا لعجوز لا يقوى على حملك في عبور جديد.. فاعبر أنت بدمشق إلى أن يعبر هذا الوطن بعيداً عن هذا الرصاص.

ثلاث سنوات مرت وها أنا ذا أعبر بك يا دمشق، وما عبرت صوبك! مررت بمدن ومطارات، ابتسمت لي حدود وعبست بوجهي حدود أخرى.. صار جواز سفري خيمة، صار تهمة، وصار باباً مشرعاً للريح والوجع.

وعلى بعد ثلاث سنوات منك، دثرتني مدن بحنانها، ورمتني مدن أخرى بالبرد. دبي كانت مثل الحلم، إجازة من الوجع وهدنة للروح. بيروت كانت على حافة الجرح تعمق جراحي. عمّان كانت محطة عبور للغريب، وانتظار على برد وعلى قلق. في كل المدن كنتِ معي وفيّ وما كنت معك ولا فيك.. هو سر دمشق، لمن لا يعرفها، تسكنك حيث ووقت لا تستطيع أن تسكنها.

ثلاث سنوات مرت بعيداً عنك يا دمشق... وبعيداً عنك، ألملم من ذاكرتي كل ما تبقى من صوتك وصورك.. أجمعها في جريدة، وأتأبّطها كسكّير يحمل زجاجة خمره، وأمضي إلى بيتي، أغلق الأبواب، أغلق النوافذ، وفي عتمة غرفتي، أفرش الجريدة على الأرض، وأصيح: (أيا صوتها.. أيا صورها.. حلّقي الآن واملئي هذا المكان، إنّي الليلة لا أريد أن أفارق دمشق).
دلالات
المساهمون