أيها الطارئون: اتركوا لنا "شارع المتنبي"
أيها السياسيون، والطارئون على السياسة، في العراق، ممن جاءت بهم المصادفات، فاستحوذوا على شؤون البلاد والعباد، نرجوكم أن تتركوا لنا هذه "الفسحة الثقافية الأسبوعية" التي اتخذنا منها ملجأً وملاذاً، ونعني بها "شارع المتنبي" في بغداد، فلا تُفسدوا علينا "طقوس جمعتنا" فيه. تركنا لكم، كما أردتم، أيام الأسبوع كلها، تعبثون بها كما تشاء أهواؤكم، وتمضي بكم رغباتكم: من صخب مروركم وحماياتكم التي لم يعرف "تاريخ السلطة" و"نزعات التسلط" نظيراً لها، لا في هذا البلد المسكين، ولا في سواه من بلدان الأرض: من قطع للشوارع، واستحواذ على "مناطق عامة"، لم يعد يدخلها أحد سواكم، ومصادرة ما كان للإنسان في هذه المدينة، بغداد، من فسحات بريئة، فضلاً عن الإهمال الكلي الذي تعرضت له أماكن، لم تدخل في "حساباتكم"، على الرغم من كل ما لها من "أزمنة تاريخية".
ولم يبق من فسحة تُعيد إلينا شيئاً من الكثير الذي فقدنا، سوى هذا الشارع الذي إن امتد بعيداً في الزمان، الثقافي والتاريخي للمدينة، فإنه لا يمتد بعيداً في المكان. ومع ذلك اتخذناه، نحن مثقفي هذه المدينة التي فقدت ملامح كثيرة من وجهها الثقافي العريق، موعدنا: نلتقي فيه صباح كل جمعة من أيام الأسبوع، في حين تكون لكم "منتجعاتكم" التي تذهبون إليها في مثل هذا اليوم. وقد حسبنا، واهمين، أن الشوارع التي نقطعها إليه، تخلو، في مثل هذا اليوم، من مروركم الصاخب، ومن "نفير" سياراتكم وسرايا حماياتكم، فنقطع الدرب إليه بشيء من الاطمئنان.
وكما أفسدتم واقع الحياة في هذا البلد، بفسادكم متعدد الوجوه، فإن بعضكم، والعدد يتكاثر ويزداد، لم يكتف بما عنده، وبما له، فإذا هو يقتحم علينا، بخطواته الثقيلة الصاخبة، هذه الفسحة الهادئة، المجتمعة على روح الثقافة فيها: كتباً، وكتّاباً، وقراء يبحثون عن غير ما أنتم عنه باحثون: المحبة، والتواصل، والألفة، وتبادل الرأي والرؤية، وإعلان الموقف. لذلك، لا نجانب ما لهذه الفسحة من حقيقة، حين نقول: إن لهذا الشارع، شارع المتنبي، لغته التي تأنف أن يدخلها لفظ مما به تتكلمون، أو تسود واقعه علاقة تشابه ما يسود واقعكم من علاقات. فالعلاقات هنا انبنت، وتواصل بناؤها على طلب المعرفة، لا المنصب، والاستزادة من العلم لا من تكديس الأموال، ومن أدب الحديث، لا من قلّته. وشتّان ما بين اللغتين و"معجميهما": روحاً، وتطلعات، ورؤية مستقبلية قائمة على "التراكم المعرفي"، لا على "تراكم الأموال" و"اكتناز الدولار"، حتى إننا لا نجانب الحقيقة في شيء إذا ما قلنا، في ضوء واقعكم هذا: لم تعد من رؤية لكم للمستقبل إلا بها/ ومن خلالها، ولا يهم "مصدرها" و"كيف جاءت"!
إن مثقفي المدينة الذين جعلوا ملتقاهم "شارع المتنبي" قد اتخذوا من الاسم عنواناً للإبداع، والكبرياء، يستمعون إلى بعضهم البعض، ويتداولون في بعض ما للثقافة من شؤون، وما جئتم به من شجون، ويكون لبعض منهم رؤية ورأي، وهم يتعاطون الحديث في شؤون الإنسان والواقع والكتابة، من بعد أن وصلتم بها، وبكل ما كان لها من مؤسسات، إلى "أرذل العمر". ولا نكتمكم في أننا نتحدث، من بين ما نتحدث فيه، عن الكيفية التي يمكن أن نتدارك بها ما تبقى من شؤون الحياة، وواقع وجود الإنسان، علّنا نستطيع إنقاذ ما تبقى.. ولم يُهدر بعد!.
ونحن نلتقي عند "المتنبي" كل أسبوع، حاملين منه قوّة صبره على الزمن الرديء، فنؤكد: الثقافة قضيتنا، وما يجمعنا، ونجتمع إليه، هو هذه الروح العالية للكلمة، سواء في ما نقرأ، أو مما يشدنا الطموح إلى كتابته. وفي الحالتين، نريد القول والتأكيد: لكم زمانكم، ولنا زماننا. وهيهات أن نلتقي على فساد، أو نشارك، كما تأملون، في زمن فاسد.
ما يستفزنا أكثر في اقتحامكم على أبناء المتنبي، وأحفاده، شارعهم أنكم تأتون، إذ تأتون، مدججين بحراساتٍ، لو انفجرت محمولاتها، وهي المهيأة للانفجار في أية لحظة، لأنهته بمن فيه/ وما فيه. بينما لا نحمل، نحن، من سلاح سوى القلم، نخط به على ورق غير ملوَّث، "صوراً توثيقية" للكوابيس التي جئتمونا بها، ولم تحملوا إلينا سواها، وأنتم من عُرفتُم، وعرفناكم، لا قدرة لكم على سواها. لقد عسكرتم المدينة التي كان الرواد من مبدعينا، شعراء ورسامين ومعماريين، ومفكرين أيضاً، يريدون أن يجعلوا منها "مدينة كوزموبوليتية"، وقد حققوا شيئاً من ذلك، فأزلتموه.
نراكم، وجحافل حراساتكم تحيط بكم، تنظرون نظرة شزر إلى الكتب، ولا عجب، فالمرء عدوّ ما جهل. فالكتاب ليس له موقع بين اهتماماتكم، والقراءة ليست من عاداتكم (ولا نقول: من تقاليد حياتكم)، والمثقف الذي يقصد "المتنبي"، في هذا اليوم من كل أسبوع، ليس صديقاً لكم، ولا يمكن أن يكون. لا لشيء إلا لأن "اللغة" التي يتبنى، والأخرى التي بها تتكلمون، لا تعقد أي ضرب من ضروب التواصل.
ونؤكد لكم، نحن رواد هذا الشارع في "جمعتنا المقدسة"، أننا لا نريد شيئاً منكم، باستثناء أمر واحد، هو: أن تكفّوا عن قصده في يومنا هذا، فنحن لا نطمئن لوجودكم بيننا، وإن كنتم تسيرون معزولين، ووجودكم لا يحمل الطمأنينة للمكان، ورجاؤنا هو أن تكفّوا أقدامكم الثقيلة عن أرض مكانٍ ليست لكم، ولن يكون لكم إلا إذا قررتم احتلاله، وبعضكم يمتلك "خبرة الاحتلال"، طرقاً ووسائل، لأنه جاءنا على دبابات المحتل!