أوهامنا المبجَّلة، أوهامنا الشافية

28 ابريل 2015
+ الخط -
يصل رسام تشيلي إلى بغداد عشية الانقلاب البعثي عام 1963. تستقبله سيدة تريه تذكاراً: إنه قارورة فيها بقايا من جثة نوري السعيد. يتنقّل الرسام بين مدن العراق ويختفي في إحداها مقتولاً، تاركاً الكثير من اللوحات: حبات تمر عملاقة، جرادة حُبلى في صحراء يشفّ بطنها عن سبع جرادات، آشوريٌ يهينه جنديان، طالبٌ مطعون بمدية يطفو على نهر دجلة أمام متنزهين يعدّون "المسكوف"، فلاحون مشرّدون نائمون على أرصفة العاصمة بعد إعلان عبد الكريم قاسم قانون الإصلاح الزراعي. هذه الأمثلة المأخوذة من رواية "بريد بغداد"، للروائي التشيلي خوسيه ميغيل باراس، تشبه في نواح عديدة تصوراتنا. لا نتذكّر العراق، الحديث والراهن، من دون عنف وحروب وقتل. إنه المرجل الذي يعكس غليانه الجهنمي التردّي العربي وانسداد الواقع داخل الكارثة. وقعت مصائب العراق بأحجام مهولة عجزنا عن تخيّلها ثم، عبر الأواني المستطرقة للكوارث، امتدّت أذرع الاستنقاع واحتوت سورية ودولاً عربية أخرى. جاورنا الفجيعة العراقية، وقلنا إنه ما من بلد عربي حلّت به مصائب بهذا المقدار وبهذه الديمومة، كأن العراق مأساتنا وملحمتنا وأغنيتنا المبكية، والعراقيون أهل الكابوس وسكان الجراح العظيمة كنهريه العظيمين. كانت فظاعات الحقبة الصدامية تروّعنا عن بُعد؛ كنّا نرى كيف يدخّن صدام سيجاراً ويهدي المسدسات والسيوف إلى المجرمين، ويعتلي ببياض بدلته وبياض ابتسامته سيارةَ مرسيدس بيضاء ليطلق النار في الهواء. كانت فكرتنا الأولى عن العراق، ولا تزال، هي المأساة التي تجوب أحقابه وفتراته، المأساة الضخمة دائماً. الأحداث تتماحى وملايين المنفيين تذرذروا، ولا أحد يعرف عدد الموتى العراقيين الهائل، المتساقطين والمتطايرين أشلاء والمدفونين أحياءً في مقابر جماعية في الجنوب وحلبجة والأنفال، وفي الأسواق وباحات المصحات والسجون. كانت البلد جهنم الرقابة وأرض الإعدام، لم تزدها أموال النفط إلا بؤساً ودماراً كسبب آخر في هذا الاهتراء، في إطالة ليل المكلومين وتفتّت الأمكنة وسعار النهب. المصيبة تتّسع، والهلاك دؤوب في حصاده؛ يبس النخل أيضاً وجفاف الأهوار شرّد طيوراً مهاجرة كتب عنها سركون بولص إحدى قصائده.
في العراق تشييع لم يتوقف منذ عقود، نعي مفتوح كالنعوش. هناك دائماً ضحايا، وضحايا الضحايا، في أرض الفقد والدمع، أرض مباعة تناهشتها المافيات والقتلة وسياسيو المنطقة الخضراء وزعماء العشائر. سميت انقلابات البعثيين العسكرية الدموية "ثورات"، ثم سمّي الاحتلال الأميركي تحريراً، التحرير الملغوم ببذور اقتتالات لا تنتهي، الحياة تُهرق والكرامة والقيم تتحطّم والمتاحف تنتهب بين سطو المليشيات وجهل الغزاة وسماسرة الخراب. جاورنا الجحيم العراقي وكأنه في مكان آخر، جاورنا الهاوية والحصار وقبِلنا بالرعب وراء الستار. كمخدوعين يستيقظون نزعنا أوهاماً رضخنا لها، وزرعنا أوهاماً جديدة وتحايلنا على فداحة الحياة، وبررنا تكاسلنا ورياءنا وضعفنا وعجزنا.
اللامعقول مستمرّ، والكتابة في العراق مستمرّة، بالرغم من تهديد المليشيات بالتكفير والتصفية الجسدية، بالرغم من هلع العيش وترقب الانتحاريين والسيارات المفخخة. كانت لنا أفكارنا المخدرة المتداولة حول العراقيين الذين أحببنا تعلّقهم بوطن خيالي اسمه العراق يسكن الأغنيات والقصائد، يداوون لوعتهم بالأغنيات ويتواسون بالشعر، كأن الحزن العريق قدر مكتوب على كلّ عراقي. غريبة ومؤسية أقدار العديد من الكتّاب والشعراء العراقيين ومفجعة مصائرهم. إنها أقدارنا أيضاً وصورة قياماتنا المستمرة في مرير الأيام. الجواهري والبياتي دفنا في دمشق؛ نالت آلات المطاعم من أصابع حسن بلاسم وأكلتها في المنفى؛ في البصرة التي لا يزال يقطنها كاتبها محمّد خضير، سطا لصوص مجهولون على منزل محمود البريكان وقتلوه في غرفته بالسكاكين؛ قضى رعد عبد القادر في بيته مفتوح النوافذ والأبواب؛ فقَد خزعل الماجدي ابنه المخطوف؛ قصفت طائرة أميركية بصاروخ منزل عائلة شاكر الأنباري وقتلت أمه وأباه وإخوته؛ رثى مظفر النواب آدم حاتم المدفونَ في صيدا اللبنانية، الموارى قبراً من دون شاهدة، آدم الموصوف بالبوهيمي والصعلوك كجان دمّو، المفلس في الحرمان والعوز، مات إثر شجار في حانة مع سكّير مجهول مثله، وسُرقت حقيبته الصغيرة التي حشر فيها حياته وقصاصات قصائد قال في إحداها إن شموع كبده تكفي لإضاءة مدينة؛ كبدٌ آخر، أحرقته القصائد وأوجاع الحياة، أنهى حياة عقيل علي، بعد عمله فرّاناً وتنقله بين الفنادق الرخيصة قضى عقيل على أرصفة بغداد نازفاً حتى الموت، وكان قد قال "هناك شظية سقطت في الإناء فسمّمتْ حليب الذكرى". لكننا، وسط الدمار والخسارات، نعرف أن شاعراً مثل صلاح فائق على سواحل المحيط الهادي يقرأ في الظلام مستضيئاً بالبريق المنبعث من عيني قطة. 
(شاعر سوري)
المساهمون