لم يصنع أوليفر ستون أفلاماً عن أحداث وشخصياتٍ حقيقية، إلّا ووجد نفسه مُلاحَقاً بانتقاداتٍ حول "الأجندة السياسية" التي تحكُمها، أو حول دقّة الوقائع التاريخية التي يسردها. لكنّه هذه المرّة سيختار شخصيةً حقيقيةً يبدو أنَّ له مطلق الحرية في كيفية تناوُلها. هذه الشخصية ليست سوى أوليفر ستون نفسِه.
في كتابه "مطارَدة الضوء"، الصادر في يوليو/ تمّوز الماضي عن "دار هوغتون ميفلين"، يروي المُخرج السينمائي الأميركي (1946) قصّته الشخصية مِن فرنسا إلى الولايات المتّحدة، وسيرته المهنية مِن مُتطوّع "ساذج" عائد من حرب فيتنام بندوبٍ داخلية، إلى سائق سيّارة أجرة يائس في شوارع نيويورك أمضى سنواتٍ في كتابة نصوصٍ لم تلق اهتماماً، إلى أحد أبرز كُتّاب السيناريو، ثمّ أحد أبرز المُخرجين الأميركيين.
يُهدي المُخرج المثير للجدل مذكّراته إلى جون دالي، منتجِ الأفلام البريطاني المستقلّ الذي عمل معه في فيلمَي "سالفادور" و"بلاتون"، والذي يكتب عنه قائلاً إنه "قدّم يد المساعدة التي احتجناها جميعاً"، قبل أن يسترسل في مقدّمة الكتاب في الحديث عن تجربة فيلمه الروائي الطويل "سالفادور" (1986) الذي يتناول الحرب الأهلية في السالفادور مطلع الثمانينيات مِن خلال قصّة صحافي أميركي يُغطّي تلك الحرب.
يتحدّث ستون عن جون وودز، الممثّل الرئيسي في الفيلم، و"الذي ظلَّ مرعوباً من أنْ يتأذّى مع هذا المُخرج المجنون الذي كاد أنْ يقتله عدّةَ مرّات بالفعل. إنه يُفكر تماماً في وجهه، وفي قنابلنا الغازية، وأيّ منها يمكن أن يُشوّه وجهه ويدمّر حياته المهنيّة لحظةَ تفجيرها"، ويُعلّق بشيء من السخرية: "ربما هو الوحيد الذي لن يكون سعيداً بهذا الكتاب".
يتطرّق ستون إلى الصعوبات التي واجهَت تصوير الفيلم في المكسيك، وفي مقدّمتها الضائقةُ المالية التي وجد نفسَه فيها بعد تخطّي العمل الميزانية المخصّصةَ له، ثمّ صعوبةُ إيجاد مموّلين جُدد لاستكماله. كان "سلفادور" بمثابة "مشروع العمر" بالنسبة إلى المخرج الذي كان قد أخفق، قبل ذلك، في إنجاز فيلمَين آخرين. لكنَّ الأمر لم يكُن كذلك بالنسبة إلى صنّاع الأفلام في "هوليوود" التي لم تُقدّم له أيَّ دعمٍ في تلك الفترة. والسبب أنّهم "لم يكونوا يؤمنون بي ولا بفيلمٍ عن بلدٍ "قذر" مثل السالفادور، والذي لن يُحقّق أيَّ اهتمامٍ لدى الجمهور الأميركي، وفوق ذلك هو عملٌ مليء بالمشاعر الثورية والتعاطُف مع هذا البلد".
شكّلت حربُ فيتنام، كحدث تاريخي دموي، هويته السينمائية
كان على ستون أن يغامِر بكلّ ما لديه لإكمال الفيلم الذي يقول عنه: "هو أوّلُ فيلم حقيقي أخرجته منذ بداياتي حتى النهاية، من غير استوديو يدعمني، ولا توزيع معتمد. أخرجتُه فقط بإيماني الخالص، وبدعم منتجِين بريطانيّين مستقلّين، أفضل ما يمكن وصفهم به أنهم كانوا مغامرين". وفي النهاية، صدر العملُ فعلاً، وأثار ما يشبه صدمةً في المجتمع السينمائي الأميركي، وحصل على ترشيحَين لجوائز أوسكار، رغم ميزانيته المنخفضة وتوزيعه المحدود. كان ذلك بمثابة ضوءٍ في آخر نفقٍ سار فيه المخرج الأميركي الذي يقول: "هكذا تبدو حياتي كلّها، كأنّي أقوم دوماً بمطارَدة الضوء فقط".
وفي سنوات لاحقة، عندما سُئل أوليفر ستون - في أحد الحوارات - عن ذكريات "سالفادور"، أجاب قائلاً: "اعتبرتُه، وقتها، الفرصة الوحيدة التي سأحصل عليها... لذا عليَّ أن أغتنمها إلى أبعد الحدود الممكنة. في هذا العمل، طبّقتُ ما علمّنا إياه مارتن سكورسيزي الذي كان يقول: اجعل الفيلم شخصيّاً. ولهذا جعلتُ منه - "سالفادور" - الفيلم الخاصَّ بي".
يتوزّع الكتاب بين اثني عشر فصلاً؛ هي: "طفل الطلاق"، و"أيامٌ غريبة"، و"الأرض عبر البحر"، و"قطار منتصف الليل"، و"سقوط"، و"صور"، و"انتظار المعجزة"، و"جنوب الحدود"، و"سالفادور، و"العودة من الجحيم"، و"العودة إلى الغابة"، و"في قمّة العالَم"، و"اعترافات".
في الفصل الأوّل، "طفل الطلاق"، يغوص ستون في ذاكرته الشخصية، مستعيداً أدقّ التفاصيل التي تخصُّ طفولته ووالدَيه. كان لويس ستون مقدّماً في الجيش الأميركي. وفي فرنسا، حيثُ كان مجنَّداً خلال الحرب العالمية الأولى، رأى شابّةً جميلة تقود درّاجة. كانت سكارليت أوهارا "متمرّدةً بطبيعتها... وقد حظيت برعاية خاصّة من والديها اللذين قدّما لها أفضل ما في وسعهم"، و"مِثل كل الفرنسيّين، وقعت في حب الأفلام الأميركية في ثلاثينيات القرن الماضي".
تزوّجَ الشابّان سريعاً وانتقلا إلى الولايات المتّحدة. ولاحقاً، أسرّت سكارليت للويس بأنّها وجدت أميركا مكاناً ساحقاً وغريباً، وأنّ عائلته تتّسم بالبرود والتكتُّم، على عكس العائلات الفرنسية؛ حيث يعرف الجميع كلَّ شيء تقريباً عن بعضهم البعض. كان ذلك، أيضاً، تعبيراً عمّا واجهَته من رفضٍ في المجتمع النيويوركي. "لقد تألّمتُ لها جدّاً؛ فقد تحطَّم حلمُها الأميركي"، يقول أوليفر ستون. وفي شتاء 1962، سيتلقّى أوليفر، الذي كان حينها في السادسة عشرة من عمره، ما يعتبره أكبر صدمة في حياته؛ حين واجهه والدُه بهذه الجملة المقتضبة: "أوليفر، أنا وأمُّك سننفصل".
يعترف مخرج "قتلة بالفطرة" (1994): "لو كان والدايَ يعرفان بعضهما البعض جيّداً قبل الزواج، لما اتّحدا أبداً، وما كنتُ لأتواجد. إنَّ الأطفال مثلي يُولدون من تلك الكذبة الأصلية، ويعيشون على جبهة زائفة".
كان لتلك الحادثة تأثيرٌ بالغٌ عليه، ولعلّها لعبت دوراً رئيسياً في تشكيل شخصيته "الاستفزازية"؛ فبعد طلاق والدَيه، عاشَ ستون مُشتَّت الذهن وضائعاً، ترك جامعته "ييل" وتطوّع للقتال في فيتنام. أراد أن يكون مثل أي شخص آخر... جنديّاً مجهولاً، وسط الوحل مع الحشود. لكنّه حين عاد من هناك، وجد صعوبةً بالغةً في التأقلُم مجدّداً مع المجتمع الأميركي.
أفلامه تستفزّ الجماهير وتُغضب النقّاد ثم تحصد الجوائز
في بقيّة الفصول، ثمّة كثيرٌ من الحديث عن الحرب، حرب فيتنام تحديداً، عن المعارك التي دارت هناك، والجنود في الخنادق والمواجهات الدامية مع المقاتلين الفيتناميّين الشماليّين، وأصوات البنادق والمدافع البعيدة، ونيران الرشّاشات، والمروحيات التي تأتي لإجلاء الجرحى. تبدو حرب فيتنام، كحدث دموي وتاريخي بارز، ما شكّل هوية أوليفر ستون. وكانت المادّةَ الخام التي ساعدته في إخراج فيلمه "بلاتون" (1986).
الحرب في الواقع مملّة، هناك الكثير من الضجر والوقت الضائع، والموت الروحي كذلك، يكتب مخرج "وول ستريت" (1987) في مذكّراته، ويضيف: "لم يكن لديَّ شيءٌ هناك لأفعله حقّاً سوى البقاء على قيد الحياة".
انتهت الحرب بخسارة فادحة للأميركيّين؛ خسارة الكثير من الأرواح والأموال والوقت والجهد، وأيضاً مصداقية البلد، وهو ما قابله الأميركيّون بالإنكار. يُعلّق كاتب سيناريو "الوجه ذو الندبة" (1987): كنّا فخورين جدّاً. وبعد ذلك، عندما لم نتمكّن من تحقيق النصر، كان علينا أن نكذب؛ كما نفعل جميعاً عندما نُنكر ما نعرف أنه صحيح".
ينتقل ستون إلى الحديث عن فيلمه الأيقونة "بلاتون"، الجزءِ الأوّل من ثلاثيته حول فيتنام (تضمّ الثلاثية أيضاً "مولود في الرابع من تموز"، 1990، و"السماء والأرض"، 1993). كان العملُ الفائزُ بأربعٍ من جوائز أوسكار وجائزتين في "بافتا" وثلاثٍ في "غولدن غلوب"، تصويراً لكابوس حقيقي عاشه المخرج الأميركي من الداخل. وفي ما يشبه الاعتراف، يقول: "حياتي بعد بلاتون لن تكون أبداً كسابقتها، أصبحتُ الآن أعمل في استديوهات حقيقية وبأموال حقيقية كذلك".
هنا، يورد ستون حواراً جمعه بوالده الذي قرأ سيناريو الفيلم ولم يُعجَب به، فقال له: إنه سيّئ. من سيرغب في مشاهدته؟ لماذا لا تحاول أن تمنح الناس الأمل؟
- ولكن هناك أمل. أنا أقول الحقيقة وما حدث بالضبط، وأحاول أن أكون صادقاً.
- لا يريد الناس معرفة الحقيقة... إنهم يَذهبون إلى السينما للابتعاد والهروب من كلّ شي.
وفي تلك الجلسة، قدّم لويس لابنه نصيحةً لن يعمل بها أبداً: "لا تقُل الحقيقة، ستجلب المتاعب لنفسك".
في فصول الكتاب اللاحقة، يستعيد "عملاقٌ مستفزّ لنظام صناعة الأفلام في هوليوود" - كما وصفه الممثّل البريطاني أنتوني هوبكنز - صراعه وانتصاره وهو يصنعُ أفلاماً مثل "جي أف كي" (1991) عن قصّة اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، و"دبيلو"(2008) عن الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش وغيرهما. إنّها قصّةٌ عن "لعبة الأفلام" كما يُسمّيها المخرج الأميركي الفائزُ بثلاث جوائز أوسكار، وليس "صناعة الأفلام".
تُمثّل هذه السيرة الذاتية نظرةً من الداخل إلى سنوات الاضطراب التي شهدتها هوليوود في السبعينيات والثمانينيات، يُلقيها أحدُ أكثر المخرجين التزاماً في تاريخ السينما الأميركية، نجح في صناعة أفلام ضخمة، تستفزّ الجماهير وتُغضب النقّاد، ثمّ تحصد الجوائز، وخلق شخصياتٍ مبدعةً (لنتذكّر هنا توني مونتانا - أداء آل باتشينو" - في "الرجل ذو الندبة" للمخرج براين دي بالما)، لكنَّ صوت الكاتب كان الأعلى فيها.
يَعتبر أوليفر ستون أنّ المزيج الثقافي الذي نشأ فيه والخلفيات المختلفة التي قدم منها والداه ساعداه كثيراً ومنحاه ذاك التنوُّع الذي كان بحاجةٍ إليه، سواء في الإخراج أو الكتابة.
* كاتب من الجزائر