لم يأتِ قرار بوروشينكو منح ساكاشفيلي الجنسية الأوكرانية، وتسميته والياً لمقاطعة أوديسا، عن عبث، بل نكأ جراحاً قديمة، تعود إلى العام 2008، حين اجتاحت دبابات الكرملين الأراضي الجورجية، وحاصرت العاصمة تبليسي، رداً على ما سمّته "اعتداءً جورجياً على مقاطعتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا"، الواقعتين في جورجيا، لكن غالبية سكانها من الروس.
الآن أعطى بوروشينكو الفرصة لساكاشفيلي في الانتقام من الروس في ترانسنيستريا ومحاصرتهم هناك، إذ اعتاد الجيش الروسي العبور إلى روسيا من ترانسنيستريا عبر أوديسا، وفقاً لاتفاقيات سابقة مع حكومة كييف، غير أن الرئيس الأوكراني ألغى الاتفاقيات. كما أطلق يد ساكاشفيلي، لـ"الانتقام" من الحشد الروسي المفاجئ على الحدود الروسية ـ الأوكرانية.
غير أن لكييف حسابات داخلية أيضاً، تهدف إلى إراحة الجبهة مع "القطاع اليميني" المتطرّف. وقد حرص بوروشينكو منذ انتخابه رئيساً (7 يونيو/حزيران الماضي) على تأمين الجبهة الداخلية في مواجهة انفصاليي دونيتسك ولوغانسك، شرقي أوكرانيا، لكنه اصطدم بعناد "القطاع اليميني"، الذي هدد أكثر من مرة بالانفصال عن كييف، وتشكيل دولة له في مقاطعة دنيبروبتروفسك.
ويحاول بوروشينكو منذ فترة طويلة مهادنة "القطاع" المتورّط في مجزرة أوديسا في 2 مايو/أيار 2014، حين قتل أكثر من 40 أوكرانياً من الموالين لروسيا. ويرى بوروشينكو في "القطاع"، شبه مليشيا قادرة على ملء نقص الخبرة لدى الجيش الأوكراني، ومساعدته على مواجهة أي حراك للانفصاليين نحو ميناء ماريوبول، أو حتى مجابهة أي غزو روسي للأراضي الأوكرانية.
اقرأ أيضاً: أوكرانيا تحاصر الروس وبارود سوفييتي بانتظار شرارة
ويواجه الرئيس الأوكراني كوكبة من رجال الأعمال، القادرين على تمويل "القطاع"، بغية السيطرة عليه لمصالح شخصية. وبرز في هذا الصدد الأوليغارشي إيغور كولومويسكي، الذي خسر معركته خلال تعيين مجلس إدارة جديدة لشركة "أوكراترانسنافطا" التي تدير أنبوب نقل النفط عبر أوكرانيا في مارس/آذار الماضي.
وقد أدت التعيينات الجديدة في الشركة، إلى إقالة ألكسندر لازوركو من منصب رئيس مجلس الإدارة، وتعيين يوري ميروشنيك مكانه، مما أثار غضب كولومويسكي، الذي استقال من منصبه كمحافظ منطقة دنيبروبتروفسك، بفعل ذلك.
ونجح بوروشينكو بذلك في تهدئة وضع الجبهة الداخلية، قبل شروعه في خطته الجديدة، عبر الاعتماد على ساكاشفيلي وتكريس دور "القطاع اليميني" في أوديسا، ليُبعدهم عن دنيبروبتروفسك، القريبة من كييف.
هكذا، حدّ الرئيس الأوكراني من إمكانية "حدوث تلاقي مصالح" بين "القطاع" وانفصاليي دونباس (الذي يضمّ إقليمي دونيتسك ولوغانسك) باسم "محاربة سلطة كييف"، وخصوصاً أن كولومويسكي، لم يكن بعيداً عن موسكو، وكان من المحتمل أن يُشكّل حصان طروادة موجعاً للحكومة الأوكرانية. لكن إطاحته وإعادة الإمساك بـ"القطاع اليميني"، سمحتا لبوروشينكو بالاستعداد للمرحلة المقبلة، بعد حشد الروس قواتهم في روستوف، على مقربة من الحدود الأوكرانية، وفي ظلّ إقرار مرسوم "منع التداول بخسائر القوات الروسية".
وسبق لموقع "توبنيوز.رو" أن نقل عن مدير مركز "السياسات الراهنة ـ كاسكاد" سيرغي ميخييف، قوله في ذلك الحين إنه "إذا ما انتقلت منطقة دنيبروبتروفسك ولو بشكل غير معلن باتجاه نوفوروسيا (الجمهورية التي يطمح إلى إنشائها انفصاليون شرق أوكرانيا)، فإن ذلك سوف يضاعف الفرص لاندلاع انتفاضات روسية في مقاطعات خاركوف وزابوريزيا وأوديسا ونيكولاييف وخيرسون".
اقرأ أيضاً: أوكرانيا: فساد يلاحق "الدفاع" و"القطاع اليميني" يرفض الاندماج بالجيش
أما دخول ساكاشفيلي على الخطّ، فيحمل أكثر من معنى، عدا المفهوم "الثأري" أو "الاستفزازي" المحدود لروسيا، بل شكل رسالة تُفيد بتحوّل بعض الجمهوريات السوفييتية السابقة، إلى "رأس حربة" في مواجهة طموحات الكرملين، وانتهاكاته العسكرية المتتالية من بحر البلطيق، ودوله الثلاث: ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، وصولاً إلى تخوم جبال القوقاز في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، مروراً بالشرق الأوكراني.
وما يجمع ساكاشفيلي بـ"القطاع اليميني"، هو احتجاج عناصر من "القطاع" أمام مكتب للداخلية الأوكرانية في أوديسا، في 7 مايو الماضي، الذين حاولوا اختراق الطوق الأمني الذي فرضته الشرطة لمنعهم من الاقتراب من المبنى. وكان المحتجون يطالبون بإقالة رئيس مديرية الأمن الداخلي في مقاطعة أوديسا، إيغور بوستوفيت، باعتباره من أنصار النظام السابق.
كما اتهموه بـ"التورط في الفساد الإداري، وتزوير وثائق تزعم بأنه شارك في العملية العسكرية التي تجريها كييف في شرق أوكرانيا، من أجل تجنب إقالته من الأجهزة الأمنية تنفيذا لقانون تطهير السلطة". وأدت الاحتجاجات دورها في وصول ساكاشفيلي.
وكان ساكاشفيلي قد بدأ "مهامه" الأوكرانية، في إطار رئاسته "مجلس الإصلاحات الدولي الاستشاري"، الذي يضمّ رئيس وزراء السويد السابق كارل بيلدت، ورئيس لجنة البرلمان الأوروبي للشؤون الدولية ألمار بروك، ورئيس وزراء سلوفاكيا السابق ميكولاش دزوريندا، ورئيس وزراء ليتوانيا السابق أندروس كوبيليوس، وغيرهم من الشخصيات. كما أشار ساكاشفيلي إلى أن "الرئيس البولندي الأسبق ألكسندر كفاسنيفسكي، أبدى رغبته في الانضمام إلى المجلس الاستشاري المذكور".
علماً أن السيناتور الأميركي، جون ماكين، كان من الأسماء المطروحة في المجلس، الذي تنحصر مهمته في إعداد نصائح للرئيس الأوكراني، بشأن إجراء إصلاحات على أساس "خبرة دولية متقدمة".
وبناءً على ذلك، يرفض بوروشينكو رفع الراية البيضاء في وجه طموحات الكرملين، ورئيسه فلاديمير بوتين، لتُصبح قراراته الأخيرة، بمثابة "أمر اليوم" الأوكراني قبل صيف ساخن.
اقرأ أيضاً: الصراع على أوكرانيا.. التحاق السياسات بأوروبا وأميركا أم بروسيا؟