أوروبا واللاجئون: نفاق وعجز عن الفهم وحلول تفاقم الأزمة

20 يونيو 2016
أمنستي: أوروبا عجزت عن تقديم رد إنساني(جودي هلتون Getty)
+ الخط -
يعتبر كثيرون أنّ التعاطي الأوروبي مع ملف اللاجئين المهجَّرين من سورية والعراق وأفغانستان والدول الأفريقية الفقيرة إلى القارة العجوز، منذ عامين حتى اليوم، يختصر ثلاثة مظاهر صارت ملازمة لهوية المشروع الأوروبي الموحد: أول ما يكشفه سلوك الدول الـ28 إزاء موجة اللجوء، هو النفاق الغربي، الأوروبي تحديداً، لناحية الارتباك تجاه ما لا يتجاوز مائتي ألف مهجر لاجئ، لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة جداً تكاد لا تحتسب من سكان ومواطني الدول الـ28، في حين تستضيف دول ذات إمكانات ضعيفة للغاية مقارنة مع دول أوروبا، مثل تركيا والأردن ولبنان، مجتمعةً، ما يناهز ستة ملايين سوري ربما على أراضيها. ثاني العورات التي تفضحها السلوكيات الأوروبية تجاه فقراء ومهجري الشرق الأوسط ووسط آسيا والساحل الأفريقي الهاربين إلى شواطئ الموت الأوروبي، هو انعدام وجود سياسة موحدة لدرجة بات ملف اللاجئين قاب قوسين أو أدنى من التسبب بانفراط عقد الاتحاد. ثالث الملاحظات المتصلة بالملف، ما يسميه كثيرون قصوراً أوروبياً مستغرباً لجهة فهم أسباب موجة اللجوء الجماعية، ومحاولة معالجتها بطريقة تكاد تفاقم أسباب الظاهرة. فإذا كان كثر يدركون، لدرجة اليقين، أن موجة اللجوء السوري والعراقي مثلاً، سببها في الأساس سياسي يرتبط بالكارثة التي يتسبب بها نظاما الحكم في دمشق وبغداد، وما أفرزاه من ظواهر مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، فإنّ دوائر الحكم في عواصم الاتحاد لا تزال تفهم الوضع بشكل معكوس، بمعنى أن الاتجاه الأوروبي العام، منذ انفجار أزمة اللجوء، صار ميالاً أكثر للتراجع عن شعار إسقاط بشار الأسد والحكم الطائفي في بغداد، علّ ذلك يضبط حركة الهاربين من الجحيم في هذين البلدين.

هكذا دخلت القارة العجوز في أسوأ أزمة منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب ما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، خلال القمة العالمية للعمل الإنساني في إسطنبول. وقد أوقعت أزمة اللاجئين، المسؤولين الأوروبيين بين "الواجبات الإنسانية" التي تفرض عليهم استقبال الهاربين من لظى الحروب، وتوفير المأكل والمسكن والمشرب لهم، من جهة، وبين مراعاة الحسابات السياسية، الداخلية والخارجية المعقدة من جهة ثانية. ولا يزال التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي هو العنصر المفقود في كل محاولات حل أزمة اللاجئين تقريباً، وكلما تفاقمت الأزمة واشتدت حلقاتها صار هذا التضامن أبعد من أي وقت مضى، نظراً لتنامي نفوذ الأحزاب اليمينية الشعبوية في الكثير من بلدان أوروبا، وجنوح الكثير من الحكومات نحو تبني سياسات مناهضة للاجئين.

تخبط أوروبي

تراوح التباين في المواقف الأوروبية بين من يدعو إلى إجراءات وقائية لضرب عصابات تهريب اللاجئين في مواطنها خلف البحار، وبين من بادر إلى نشر الجيش أو بناء الجدران وحواجز الأسلاك الشائكة على الحدود لمنع تدفق طوابير اللاجئين. وهناك من يرفض بصرامة استقبال أي من اللاجئين. في المقابل هناك من يُعبر عن استعداده لاستقبال أعداد محددة من هؤلاء. وفي خضم هذا التباين في المواقف والإجراءات، وبعد 13 قمة أوروبية عُقدت خلال عام 2015، والذي شهد ذروة الطوفان، اعتبر أكثر من مسؤول غربي أن أزمة اللجوء هي أكبر تحد لدول الاتحاد في تاريخه، "ولا يمكن لأي دولة بمفردها أن تنجح في مواجهة هذا التحدي، إذ يتوقف الأمر على التضامن الأوروبي"، كما يقول وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير.


الخلافات الأوروبية حول معالجة أزمة اللاجئين ومواجهة تداعياتها، والحيلولة دون تفوق المخاوف أو المصالح السياسية على الواجبات الأخلاقية والإنسانية، دفعت منظمة العفو الدولية (أمنستي) إلى وصف موقف الدول الأوروبية في مواجهة أزمة المهاجرين الفارين من الحرب في الشرق الأوسط بـ"المخزي". وقالت "أمنستي" في تقريرها السنوي حول وضع حقوق الإنسان في العالم، إن "الاتحاد الأوروبي الذي يشكل الكيان السياسي الأغنى في العالم، أظهر عجزاً عن تقديم رد متماسك وإنساني يحترم حقوق الإنسان".

ويظهر هذا التخبط جلياً في تحول بعض المواقف الأوروبية تجاه رئيس النظام السوري. فبعدما كانت أوروبا ترفض بشكل قطعي أي حل سياسي في سورية يكون الأسد طرفاً فيه، أصبح الكثير من الدول الأوروبية يقبل بنظام الأسد جزءاً من الحل السياسي. ويمكن إرجاع هذا التغير في المواقف الأوروبية إلى أزمة المهاجرين التي تجتاح أوروبا، ووصول خطر التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم "داعش" إلى المدن الأوروبية. وترى الدوائر السياسية الغربية أن حل أزمة اللاجئين يبدأ من سورية، وأن تهديد التنظيمات "المتطرفة" والمخاطر "الإرهابية" أصبح أكثر خطورة من تهديد النظام في دمشق. ويبدو قادة أوروبا مصرين أكثر من أي وقت مضى على التوصل إلى حل للأزمة السورية في أسرع وقت ممكن وإن اقتضى ذلك إشراك الأسد في هذا الحل.

لاجئون للمقايضة السياسية

كما هي بوابة عبور مئات الآلاف من الفارين من جحيم الحرب الطاحنة في سورية والعراق نحو شواطئ الأمان في دول الاتحاد الأوروبي، تبدو تركيا كلمة "المفتاح" في حل أزمة اللاجئين المتدفقين عبر البحر إلى أوروبا. لذلك سعى زعماء الاتحاد الأوروبي، وبعضهم مكرهين، إلى التفاهم مع أنقرة على خطة عمل مشتركة توفر دعماً مالياً وإجرائياً لتركيا من أجل تمكينها من التعامل مع المهاجرين، والحصول على إذن من تركيا للمساعدة في تسيير دوريات حراسة للساحل التركي في خطوة وقائية لمواجهة مهربي البشر، بالإضافة إلى تعزيز عمليات إعادة المهاجرين غير الشرعيين الذي يصلون إلى الجزر اليونانية من تركيا.

وبالتوازي مع ذلك، تتخذ تركيا تدابير تشمل تطبيق إجراءات اللجوء وإعطاء أولوية لـ "فتح مراكز استقبال اللاجئين الستة التي بنيت بتمويل ساهم فيه الاتحاد الأوروبي". وفي مقابل ذلك التعاون، تدفع أوروبا لتركيا ثلاثة مليارات دولار إضافيّة حتى عام 2018 لتلبية حاجات اللاجئين، وإعادة اللاجئين من اليونان إلى تركيا مقابل أن ترسل تركيا إلى أوروبا لاجئاً واحداً من الموجودين في المعسكرات التركية، وإقامة ممرّات أو مناطق إنسانيّة في سورية لحصر اللاجئين فيها، مع استئناف مفاوضات عضويّة تركيا مع الاتّحاد الأوروبيّ، وإلغاء تأشيرة الدخول على المواطنين الأتراك لدخول منطقة شينغن.

وقد وجدت تركيا ودول الاتحاد الأوروبي في هذا الاتفاق مصلحة مشتركة لجميع الأطراف، فتركيا تستضيف نحو مليوني سوري منهم قرابة ربع مليون يعيشون في مخيمات تشرف عليها الحكومة وتنفق على إدارتها من ميزانيتها. وفي المقابل، فإن القارة العجوز تخشى من تغيير ديمغرافي كبير بسبب موجة اللجوء التي تمر في معظمها عبر الأراضي والشواطئ التركية.
ورغم ما أثاره الاتفاق التركي الأوروبي من جدل وانتقادات واسعة في الداخل الأوروبي، حيث اعتبرته قوى وأحزاب سياسية "ابتزازاً سافراً من أنقرة" يهدف إلى تحقيق أهداف تتعدّى مشكلة اللاجئين، يبدو أن ثمار الاتفاق الذي بدأ تطبيقه في 4 أبريل/ نيسان الماضي بين الطرفين بهدف مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر، قد بدأت بالنضوج، إذ قال المسؤول عن شؤون الداخلية والهجرة والمواطنة في المفوضية الأوروبية، ديميتريس أفراموبولوس، إنّ نتائج الاتفاق المبرم في 18 مارس/ آذار الماضي "تظهر بشكل واضح من خلال تراجع عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى اليونان عبر الأراضي التركية"، مشيرًا إلى أنّه لم يصل إلى الجزر اليونانية منذ 13 من الشهر نفسه سوى 876 لاجئاً. وأوضح أن معدل اللاجئين القادمين إلى الجزر اليونانية من الجانب التركي، لم يتجاوز 47 شخصًا في اليوم الواحد، طيلة شهر مايو/آيار الماضي.

انتهازية اليمين الأوروبي

أدى تدفق اللاجئين غير المسبوق على القارة الأوروبية إلى صعود غير مسبوق لأحزاب اليمين المتطرف التي أشهرت فزاعات المهاجرين والحدود والإسلام للدفع بأجنداتها العنصرية وتعزيز رصيدها السياسي، والذي لا يمكن لأحد تجاهل تصاعده خلال السنوات الخمس الأخيرة، لا سيما مع تصاعد مخاوف الرأي العام الأوروبي من موجات المهاجرين التي تتدفق على القارة الأوروبية وما يرافقها من مخاطر أمنية واجتماعية.

وتزعم الحملات اليمينية المتطرفة بأن المهاجرين، وخاصة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيغيرون الطبيعة الثقافية لأوروبا وسيعملون على أسلمتها والإضرار بأنظمتها العلمانية، إضافة إلى إضرارهم بالاقتصاد وتسببهم بزيادة البطالة في صفوف المواطنين، ناهيك عن خطر تسرب عناصر متطرفة من الجماعات المتطرفة المنتشرة في الشرق الأوسط وسط اللاجئين. وهو ما عبّر عنه صراحة رئيس الوزراء المجري "فيكتور أوربان" في مقال نشرته صحيفة ألمانية، إذ كتب أن تدفق اللاجئين إلى أوروبا "ومعظمهم من المسلمين" يهدد الهوية المسيحية للقارة. وهو ذات الموقف الذي عبر عنه النائب الهولندي عن أقصى اليمين "خيرت فيلدرز" عندما اعتبر موجة المهاجرين بمثابة "غزو إسلامي". وتجد النزعة المعادية للمهاجرين أصداء على امتداد الخارطة للأحزاب اليمينية الأوروبية، حيث صرح القيادي في الحزب الكاثوليكي المحافظ في بافاريا، ماركوس سودر، للصحف الألمانية قبل أيام: "ليس كل اللاجئين إرهابيين، لكن من السذاجة القول بعدم وجود أي مقاتلين ضمن اللاجئين". أما رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو، فأكد على "المخاطر الأمنية الهائلة المرتبطة بموجة الهجرة".

أُساس المشكلة والحل

مع توافق دول الاتحاد الأوروبي على وضع خطة متكاملة لمعالجة جذرية للمشكلة، بما في ذلك الاستمرار في "خطة صوفيا" لمكافحة تهريب المهاجرين في البحر العسكري لملاحقة المهربين، خصوصاً في ليبيا، وبعيداً عن كل المساومات غير الإنسانيّة، فإنَّ الجميع يدرك أنَّ السبب الرئيسي وراء زيادة أعداد اللاجئين القادمين إلى أوروبا هو نشوب الحروب في كل من سورية والعراق وليبيا، وبالتالي فالشرط الأول لحلّ هذه المشكلة يتمثل بإيجاد حلّ سياسي يعالج جذور الأزمة ويساهم بتجفيف منابعها.

ويرى وزير الدفاع البريطاني، مايكل فالون، أنّ أي معالجة أوروبية لأزمة المهاجرين لا ينبغي أن تقتصر على عمليات إنقاذ المهاجرين من البحر المتوسط، بل يجب أن تنظر في إيجاد حلول لجذور المشكلة ومعالجة الأسباب التي تدفع الناس لترك بلادهم والهجرة، وبالتالي المساعدة في تحقيق الاستقرار لهذه الدول، وصولاً إلى وقف الهجرة الجماعية منها. لذلك، لا بد أن تدرك دول الاتحاد الأوروبي أن مزيداً من اللاجئين سيفرون من مواطنهم باتجاه أوروبا طالما أن الحرب لم تنته في سورية والاضطرابات والفقر لا يزالا قائمين في عدد من دول شمال أفريقيا. فتقديم يد العون لهذه الدول في إخماد الحرب وتنمية الاقتصاد واستئصال الفقر يمثل السبيل الأساسي لتسوية أزمة اللاجئين، كما يرى نائب المستشار النمساوي السابق، إيرهارد بوزيك.