في نهاية 1917، كتب برتولد بريشت إلى صديقه الفنان التشكيلي - ومصمّم ديكوراته لاحقاً - كاسبر نيهر: "لا شيء يحدث في الفن". لم يتجاوز عمره وقتها العشرين، ولم يكن يعرف سوى ما يدور في مقاهي ومسارح ميونخ في سنوات كان يكتب فيها الشعر بالأساس باسم برتولد أويغن.
تشير هذه المقولة - بما تحمله من سخرية وتخوّفات وملل - إلى نظرة يحملها بعض الوافدين الجدد إلى عوالم الثقافة والفن. نظرة قد تقود إلى إجهاض المشاريع التي تعتمل في الأذهان أو أنها تقنعهم أن "ما يمكن أن يحدث في الفن" هو مسؤوليتهم.
زمن 1917 لم يكن فقط زمناً يحضُر فيه "بيرت" الحفلات الموسيقية والمسرحيات، أو يكتُب نصّ أولى مسرحياته "بعل" (التي ستُعرض بعد سنوات). إنه أيضاً زمن الحرب العالمية الأولى والثورة السبارتاكية اللتين كانتا معاً تهزّان ألمانيا بقوة.
حربٌ عرف كيف يتملّص من دخول ميادينها حين غيّر تسجيله الجامعي من الفلسفة إلى الطب، فكان طوالها مجرّد مسعفٍ. وثورةٌ، رغم ميوله اليسارية، فإنه لن يكون أحد نشطائها مخيّراً أن يبقى ملاحظاً تقلبات تاريخ بلاده ونخبِها، ليصوغ ذلك في ما بعد في مسرحية "طبول الليل" ثم يكتب بكثير من المرارة والسخرية سكتشات للكوميدي كارل فالنتين، ولعله هنا تحسّس منطقة الكتابة التي يكون فيها أكثر راحة وتدفّقاً: القيام بمهمة التعرية.
حين انتهت الحرب، تحوّل بريشت إلى برلين (1920). مدينة كانت في ذلك الوقت عاصمة للحداثة الفنية التي لا تزال لندن وباريس وفيينا تقاومها. هناك تعرّف على مسرح إرفين بيسكاتور والذي اعتُبر ثورياً نظراً لجعله الخشبة منبراً سياسياً. بريشت المعجب بالتجربة لم يتوان في التصريح بأن ثورية بيسكاتور تنحصر في المستوى المسرحي، فهو يقدّم الثورة كما هي على المسرح، وليس كما يمكنها أن تكون.
لقد لمعت في ذهنه فكرة ضرورة التخلّص من الديكور، فعناصر المسرح (من الفضاء الخارجي إلى النص) ينبغي أن تقول للمتفرج بأنه في قاعة عرض وليس أن توهمه بأنه في المكان الذي تدور فيه الأحداث الخيالية للمسرحية.
هدم عمارة المسرحيات كان بالنسبة إليه مقدمة لهدم عمارة الوهم في العقول، وبذلك تتّجه التعرية نحو الأضواء والكواليس إضافة إلى الأفكار والعواطف، ليتخلّص المتفرّجون من حالات الشرود الذهني التي تخلقها المتعة الفنية وحالات الاندماج في المشاهد والشخصيات.
حضر بريشت أيضاً في برلين وميونخ الألعاب الرياضية، الملاكمة بالخصوص، وهنا اعتبر أن المسرح يحتاج إلى جمهور مثل الذي يحضر المباريات، وأن الأداء ينبغي أن يستفيد منها، وقد كتب ذات مرة رسالة للملاكم سامسون كورنر يقول فيها "طريقتك في اللعب جافة ورشيقة، سأرسل إليك بعض الممثلين".
بهذه العناصر تكون ملامح "المسرح الملحمي" قد نضجت في مخيّلته، مسرحٌ يقوم على الحكاية المَثَليّة مثل الكتب المقدسة، ويجعل من المتفرّج مراقِباً تُجبره الأحداث التي تدور أمامه أن يأخذ قراراً. فكرة انتشرت بقوة في المسرح الحديث، ولعل حجم انتشارها هذا أضرّ بما كان يطمح له بريشت، فالمتفرّج العارف بهذه النوايا غالباً ما يقاومها.
كانت أعماله التي تعاون في معظمها مع الموسيقار كورت فاين، مثل "صعود وسقوط مدينة ماهاغوني" (1927 - 1930) و"أوبرا الثلاث فلسات" (1928)، قد أخذت تشق طريقها إلى الجمهور وهي تنوّع الطروحات التي تقدّمها، وإن كانت تتخلّلها تضييقات من نظام جمهورية فايمار الذي لا يستسغ تلك الحدة النقدية البريشتية.
هل هي صدفة أن تكون نفس سنوات صعود مدرسة فرانكفورت، ودفع أعضائها بفكرة النظرية النقدية مقابل النظرية التقليدية، هي سنوات صعود بريشت على سكة موازية في الفن؟ كلاهما ستدفعه الأحداث لاحقاً إلى مغادرة ألمانيا، فصعود النازية سيقطع الطريق أمام أحلامهم جميعاً.
كان بريشت قد تقاطع في ميونخ مع هتلر إذ حضر له بعض خطاباته في الحانات البافارية. يبدو الرجلان مثل طريقين متعاكستين. أحدها كان يطمح أن يأتي بصدق الحياة للمسرح بينما يحاول الآخر الاستفادة من تزييف المسرح في الحياة.
مع تجميع هتلر لكل السلطات بين يديه في 1933، بدأ بريشت يعدّ حقائبه لسنوات المنفى، وهو الذي ستكون نصوص مسرحياته من بين كتب الحرائق العامة التي نظّمها النازيون.
من براغ إلى كوبنهاغن إلى باريس وموسكو، ثم إلى أميركا (على مرّتين)، وهناك بدأ تعاوناً ثرياً مع الموسيقار هانز ايزلر، كما وجد هناك شريحة كبيرة من النخب الألمانية من بينهم أعضاء مدرسة فرانكفورت وألبرت أينشتاين وتوماس مان وفريتز لانغ.
هؤلاء كانوا جزءاً أساسياً من الجمهور المتوقّع لبريشت حيث قدّم أنضج أعماله "حياة غاليليو" و"الأم كوراج" و"دائرة الطباشير القوقازية"، وهي أعمال لم تكن تخفي الميولات اليسارية ما كلفه الدخول في دوامة المحاكمات المكارثية التي كان مخرجها العودة إلى أوروبا ليستقر أخيراً في برلين لم تعد كما عرفها.
في نصفها الشرقي، بدا وكأنه خصّص سنواته الأخيرة لإعادة صياغة عدد من أعماله، والتوغّل أكثر في التنظير، حتى أننا نقف اليوم حيال ظاهرة فنان بجهاز مفاهيمي لا يقل متانة عن فيلسوف، كانت تلك أداته لكي "يحدث شيء ما في الفن".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما يجعل اللجوء ملحمياً
عاش بريشت طوال حياته شعوراً حاداً بأن العالم يتغيّر بسرعةٍ يصعب أن يحتملها الإنسان، وهو الذي تنقّل من بلد إلى آخر هرباً من الاعتقال والحرب. لعله شعور يلمسه كل من يعيش على وقع تسارع التاريخ في بعض منعطفاته. دوامة التاريخ التي عاشها الألماني أو الروسي في القرن الماضي يعيشها السوري والعراقي واليمني اليوم. نعرف مع بريشت أنه يمكننا أن ننصب مسرحنا في أي مكان، ذلك ما يجعل اللجوء ملحمياً.