أوراق شاب عاش سبعين عاماً

18 أكتوبر 2015
(جمال الغيطاني شاباً، القاهرة)
+ الخط -
في الأدب المصري، يمكننا أن نتحسّس ما يشبه السلالة. وكما في كل السلالات ثمة من يقف على حفظها؛ إنه ليس موظفاً عمومياً، هو نقطة في شبكتها أو ورقة في شجرتها؛ موقع مهم وبارز وخطير أيضاً، يسلّم للصفوة ممّن راكموا أمجاد "السيف والقلم"، وعاشوا غير بعيد عن مزاجية السلطة، لكنهم أمنوا شرّها وهمومها، فهو يعرفها وهو يترك مسافة أمان لولا أن الأرض تهتز أحياناً.

رحل اليوم في السبعين من عمره، جمال الغيطاني، أحد كتبة أنساب السلالة الأدبية المصرية. لعله أتى عند تقاطع جيل بنهاياته، ففي لحظة بدت المسافة التي قطعت بين جيل سلامة موسى وجيل نجيب محفوظ وقد وضعت في بطنها كامل المسافة التي يمكن تقطعها الفنون السردية العربية.

شيء من النهايات لاح، ثم اختلط الخيط الأسود بالأبيض فلاحت كذلك بدايات جديدة، وعثرنا على الغيطاني وأصلان والقعيد وغيرهم. وقفوا ضمن معادلة عجيبة، يكرّسون في خطابهم فكرة "التمام" من رواية نجيب محفوظ إلى مسرح "توفيق الحكيم" إلى أغنية أم كلثوم".

ومن جهة أخرى، كانوا يشتغلون على التجاوز، ضمن سياقات يلتقطونها خارج هذا التمام. فهمنا معهم أن مقولات الثقافة المباشرة لا تعكس شيئاً من الحقيقة الثقافية، التي تظل تتسع للتعدد والتوالد والتجدد ولو من خلايا قديمة.

كانت منصّة التجاوز لدى الغيطاني هي التراث. التوجه صوبه ليس ابتكاراً او اكتشافاً، ولكنه اجترح زاوية جديدة كانت بدعته، ليبدأ في مطابقة الواقع في مرآة قديمة حتى خلق داخلها عالماً روائياً نحسّ بانفصاله عن الماضي وحضوره في راهننا، أو كما قال عنه فيصل دراج: "يكتب نصاً في الزمن الحاضر ويهاجر إلى نص في زمن مضى (..) يسحب النص القديم إلى فضاء الحاضر، مبرهناً بأن الحاضر قائم في الماضي".

كانت رؤية الغيطاني للتراث ممتدة، بحث في طبقات التراكم السياسي والاجتماعي والمعماري المصري، كما ذهب نحو الأدب العربي القديم يستلّ من أجوائه ومناخاته. في كل مرة، يبدأ باحثاً ثم يأتيه "الفيض" فيكتب رواية.

كان هذا المشروعُ الغيطانيّ يتحرّك موازياً للقمع اليومي للحرّيات في مصر، من ستّينياتها الناصرية إلى سبعينيّاتها الساداتية، وانتصاراتها الوهمية بالنسبة لقارئ متفرج، والعميقة الصدى في نفوس من عاشوها. سيطلّ هذا القمع، وتطل هذه الانتصارات في نصوص الغيطاني.

كان التاريخ حجة الغيطاني. يقول في كل مرة: هذا مسار لإلغاء الفعل، هذا مسار ينهك نفسه، إنه إفقار. هكذا قرأنا ما سحبه لنا الغيطاني من بئر التراث، في قصص مثل "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" و"عودة ابن إياس إلى زماننا" أو "هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة" أو في رواية "الزيني بركات"، هناك حيث يكاد يصرّح بأن كل شيء بات أداة للقمع، حتى صنّاع القمع أنفسهم.

معادلة أخرى أتاها الغيطاني: يمكن أن تكون في السلطة وأن تكون عيناً ترقبها، ولكن لا يعني ذلك أن تتجاوز سقفاً (وهمياً) رسمته. أن تكون ضمن السلالة ليس خياراً، وها أن مساحات القول مفتوحة حتى وإن انغلق ما ظهر منها. قلة القلة من المثقفين عرفت متى تقف عن الحديث خارج النص.



اقرأ أيضاً: يوسف القعيد.. المثقف ظهيراً للجنرال

دلالات
المساهمون