أوجه من فساد أخلاقي

18 مايو 2018
+ الخط -
أحد صباحات مارس الباكرة، نزلتُ من شقتي في الطابق الثالث هرولة، على الرغم من وجود مصعد؛ إلا أنّ تأخري عن موعد نهوضي صباحا أنساني المصعد نهائيا.
من شأن خروجك من المنزل في عمان، صباحا، وأنت متأخر خمس دقائق، أن يزيد مدة وجودك داخل أزمة السير نصف ساعة إضافية، وأحيانا أكثر، وهذا بحد ذاته طامة كبرى، بل مصيبة ما بعدها مصيبة، على مستوى العمل.
أدرت محرك سيارتي، وخرجت من المرآب، وكان الشارع أمام المنزل يخلو من المركبات، كنت أصارع الطريق، محاولا تقليص وقت تأخري عن العمل، حين مررتُ برجل من جامعي الخردة، والذين ينتشرون في عمّان بشكل ملفت ويبحثون في القمامة عن الكرتون وعلب المشروبات الغازية والبلاستيك وأسلاك النحاس وغيرها من الأشياء التي لها ثمن في سوق الخردة.
أذكر أنّ الجو كان عاصفاً بعض الشيء، وهذا الشخص وجد فريسة من أكياس القمامة الملقاة حول حاوية تبدو فارغة، حيث كان يشُق الكيس البلاستيكي ويفرغ ما في بطنه من قمامة على الأرض، عله يجد فيه علبة مشروب غازي أو ما شابه. استمر في فعل ذلك حتى أتى كما يبدو على باقي الأكياس، في هذه اللحظة لم أتمالك نفسي حين كنت أتابع ما يفعله من خلال المرآة الوسطية لسيارتي حتى اتخذت قراراً مميتاً بالنسبة لي، وهو أن أعود أدراجي لأضع حدا لهذا المِعْوَز الفاسد، وبالفعل عدت أدراجي عبر الأزمة الخانقة مرة أخرى، مضحياً بوقتٍ أبكر لوصول العمل، وما إن اقتربت من المكان حتى وجدت الشخص قد غادر المكان، مخلّفا قاذورات هائلة لفظتها بطون الأكياس التي بَقَرها، وساعدت على انتشارها تلك الريح العاصفة. لقد أحال هذا الشخص حيّا كاملا لما يشبه مكبا للنفايات، فقط، ليبحث عن عُلبة مشروبات غازية! فلماذا لم يُفرغ ذاك المعوز تلك الأكياس في الحاوية التي كان يتكئ عليها؟ للحظة لم أتمكن من أن أجد جوابا شافيا.
في أحد المرّات مررتُ بسيارة، وقد علق دولابها الأمامي في حفرة عميقة جدا وسط الطريق. ركنتُ سيارتي يمينا وذهبت تجاهها، كان يبدو على صاحبها وقد لامس السبعين من عمره، وإذ بالحفرة مُنهل صرف صحي من دون غطاء، وما هي إلا دقائق حتى توقَّفت خلف سيارتي سيارة أخرى، ثم أخرى، ليقدموا يد المساعدة الممزوجة ببعض الفضول، بينما كنا نحاول إخراج دولاب السيارة من المُنهل، كان آخر يتصل بسائق رافعة (وِنش) كما نسميه في الأردن، مستوضحا منه عن حل للمشكلة، وسمعتُ آخر، وهو يتذمر قائلا: "حسبي الله عالهمل الحرمية إللي بسرقوا أغطية المناهل بالليل، حسبي الله عليهم". وباستفسار بسيط مني، اكتشفت أن مسألة سرقة أغطية المناهل ليلا، غدت لتصبح ظاهرة منتشرة في البلد!
حين يضرب معلم تلميذاً في أحد المدارس، في الغالب ستجد أن أهل هذا التلميذ وذويه يتوجهون إلى مديرية التربية والتعليم في منطقتهم، أو ربما يتوجهون مباشرة إلى الوزارة لتقديم شكوى بحق هذا المعلم، بينما المفروض أن يتوجهوا للمدرسة ويقابلوا هذا المعلم ليستوضحوا منه عن السبب الذي دفعه لضرب ابنهم، إذ رغم أنني ضد الضرب في المدارس، جملة وتفصيلا، لكن هذا هو التصرف الناضج من أهل يهمهم قبل كل شيء ابنهم وبنيته النفسية مستقبلا، فهل يعتبر تصرفهم فساداً أخلاقياً؟
تلك الأم التي تطلب من ابنها إخراج أكياس القمامة من المنزل، ثم تشاهده وهو يُلقي الكيس تجاه الحاوية من بعد، وكأنه يلعب كرة سلة، ولا توّجهه أو تنهره عن هذا الفعل المشين، ألا يعتبر ذلك فساداً؟ الفساد يا أخوة، لا يعني فقط اختلاس وسرقة المال العام كما نعتقد، الفساد قد يتمثل بذاك المعوز جامع الخردة وسارق أغطية المناهل، وهذه الأم الجاهلة، وقد يكون موظف حكومي ملتزما في دوامه، ويصلي في أول الصف لكنه يتعامل بفظاظة مع المراجعين، ويعطل مصالحهم، قد يكون موظف في مصلحة الجمارك، ويعطل شحنة بضاعة فقط لأنه يحسد التاجر على ماله، أو يريد منه مبلغا معينا من المال، كي ُيفرج له عن بضاعته... تخيل أنّ أمثال هؤلاء الموظفين الفاسدين أخلاقيا موظفون في هيئة الإستثمار أو وزارة الصناعة والتجارة، وما أكثرهم. إنهم يتسببون بهروب المستثمرين والتجار إلى خارج البلد وبالقانون، ألا يعتبر ذلك فساداً؟
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
بشار طافش (الأردن)
بشار طافش (الأردن)